بقلم: زكية لعروسي
وجدتُ نفسي غارقة في تأملٍ عميق حول طبيعة العلاقة التي تجمع بين المواطن والمسؤول، وذلك بعد مشاركتي في أمسية ثقافية نظّمها معهد العالم العربي. كان حديث الروائي علاء الأسواني يدور حول شخصية تُحيط بها هالة من التقديس، وهو ما دفعني للتفكير في كيفية تعاملنا مع مسؤولينا، سواء في عالمنا العربي أو في الغرب، وماهية الفجوات التي تجعل هذه العلاقة تختلف من مكان لآخر.
من الضروري أن نعيد النظر في مفهوم المسؤولية بمختلف أشكالها. فالعلاقة بين المواطن والمسؤول في مجتمعاتنا العربية عادة ما تتسم بنوع من التباعد، حيث يُنظر إلى المسؤول باعتباره شخصية فوقية، لا يسهل الاقتراب منها أو محاورتها. هذا التباعد يفتقر إلى التوازن الذي نراه في المجتمعات الأكثر انفتاحاً، حيث يكون المسؤول قريباً من الناس، يعيش بينهم ويتبادل معهم الحديث دون شعور بالفارق في المكانة أو السلطة.
لعل ما دفع ” مخيخي” للتفكير في هذه المادة هو لقاء عابر جمعني بالوزير الفرنسي السابق والمدير الحالي لمعهد العالم العربي، جاك لانغ . وانا اتحدث إليه تحرك ما تبقى من “ذرات عقلي الرمادية”، ومداد قلمي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. هذا الرجل، رغم مكانته الرفيعة، كان مثالاً للتواضع؛ يتجول بين الحاضرين، يلقي التحية بصدق، ويتبادل الحديث بعفوية. كان يبدو وكأن لا حاجز بينه وبين الآخرين. أحسست وكأنني أمام شخصية تجسد ما نأمله من مسؤولينا: تواضع يملأه وعي وعمق، بعيداً عن الاستعلاء.
هذا الموقف دفعني إلى التساؤل: لماذا نفتقر في مجتمعاتنا إلى مثل هذا النوع من التواضع؟ لماذا يختبئ بعض المسؤولين خلف حواجز من الكبرياء، متجاهلين حاجة الناس إلى حوار مباشر وصريح؟
هنا أعود إلى ما قاله الجاحظ: “وليس الذي يوجب لك الرفعة ان تكون عند نفسك رفيعا دون ان يراك الناس رفيعا، وتكون في الحقيقة وضيعا، ومتى كنت من اهل النبل لم يضرك التبذل، ومتى لم تكن من اهله لم ينفعك التنبل”.
هذا الاستنتاج الجاحظي يلخص لنا، إذاً، ان العظمة الحقيقية لا تأتي من اعتقاد الشخص بنفسه، بل مما يراه الناس فيه من تواضع ووعي ومسؤولية. المسؤولية ليست مجرد منصب أو سلطة، بل هي التزام أخلاقي يتطلب الاقتراب من الآخرين، وفهم حاجاتهم وتطلعاتهم. وعلى التوجيز، المسؤولية ليست إرثًا، بل هي عقل وموقف وشخصية متزنة تتطلب الحلم والتواضع والقدرة على الوصول إلى الآخر، وإرساء علاقة وعي ذاتي بعيدة عن المصالح بين المسؤول والمواطن، لتنشأ علاقة عقلانية مبنية على الاحترام والمسؤولية.
فالمثل يقول ” اطلبوا الحاجات من حسان الوجه” (رسائل الجاحظ)، وانا اقول ” تحدثوا إلى حسان الطلعة، ومتواضعي المنهج “. ففي حديثي مع المسؤوال جاك لانغ، شعرت أنني أمام شخص يجسد هذا المفهوم. لم يكن الحوار مستحيلاً، ولم أشعر بأي نوع من الاستعلاء. كان الحديث معه سلساً وممتعاً، يمتلئ بالحكمة والاحترام. مثل هذا التواضع لا يُقلل من شأن المسؤول، بل يرفع مكانته في عيون الناس.
فقد كان مسائي بدون ظلام، إذ طل النجم ولم يهرب، أذ التقيت برجل لا ينبت الكِبْر في مغرسه. تجمعت فيه براعة التواضع، والبِشْر عند الكلام واللقاء، ولين الخطاب، وقلة البذخ بالمرتبة الرفيعة. لم يرم بي في مواضع اليأس، إذ كان الحديث معه موزونا ومستبصرا، وما أحسست قط أن لي إقدام الجاهلة والمتهورة وانا أتحدث إليه. فازداد يقيني أن الشخصية المسؤولة هي نقيض التكبر والتجبر، والتواضع لا ينقص من شأنها، بل يعزز مكانتها ويقربها من الناس.
فالمسؤول الناجح هو من يستطيع أن يبني علاقة متوازنة مع المواطن قائمة على الاحترام المتبادل وليس المصالح الفردية. المسؤولية، في جوهرها، ليست مجرد منصب يُحتفى به، بل هي فرصة لخدمة المجتمع بتواضع ورقي. فالإنسان، كما يقول الجاحظ، “لا يكون نبيلاً حتى يكون نبيل الرأي، نبيل اللفظ، نبيل العقل”. هذا النبل هو ما نطمح أن نراه في جميع مسؤولينا. فالمسؤولية ليست مجرد منصب أو سلطة، بل هي فلسفة أخلاقية تستدعي النزول من برج التعالي إلى أرض الواقع، والتواصل الفعلي مع المواطن. يجب أن نبتعد عن العقلية التي تجعل من المسؤول شخصية متعالية، لا يرى في المواطن سوى وسيلة لتحقيق مصالحه الخاصة. على المواطن أيضًا أن يتخلى عن فكرة التقرب من اي مسؤول لتحقيق مصالح شخصية فقط، بل يجب أن تكون العلاقة بينهما قائمة على التفاهم والاحترام المتبادل.
وفي النهاية، يمكننا أن نرفع هذا النقاش إلى مستوى أكثر تجريدًا ونقول إن الكبرياء هو أول ذنب ارتُكب في السماوات والأرض، كما قال الجاحظ: ” الكِبْر هو أول ذنب كان في السماوات والارض، وأعظم جرم كان من الجن والإنس”
فدعونا نتجنب كل اشكال هذا الكبرياء الشيطاني في تعاملاتنا، ونسعى جميعًا لبناء علاقات قائمة على التواضع والإحساس بالمسؤولية اتجاه المجتمع. فلا نريد” لا جائع يتصرع ولا شبعان يطغى”.
فإن تواضع مسؤولينا هو بداية الجمال والجلال، وانقياد المواطن إليهم، بل فيه السمو الأخلاقي. إن المسؤول هو كائن وكينونة، وهو كل لا يتجزأ ولو لبس ثوب الفخامة، والحرير، فلا نطلب منه الكمال، فقط ان يتحلى بالمزيد من النبل الذي هو عقل وإرادة وموقف.
إن الوصول إلى هذا المستوى من الوعي الجماعي يتطلب جهدًا مشتركًا بينه وبين المواطن، بحيث يبتعد كل منهما عن الأنانية والمصلحة الفردية. فقط عندها يمكننا أن نأمل في بناء مجتمع متوازن، تسوده الأخلاق والنبل، ويكون فيه المسؤول خادمًا للمواطن، وليس سيدًا عليه.