بقلم: سعيد بوعيطة
من منا لا يعرف، أو سمع على الأقل بفيلم ”الهروب الكبير الذي يحكي عن قصة قيام خمسين من أسرى الحرب في أحد السجون الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية بالهرب من خلال أنفاق قامو بحفرها، وانطلقوا هاربين من هذا الجحيم، فطاردتهم القوات الألمانية حتى جرى القبض عليهم وتم إعدامهم. الفيلم من إخراج جون ستوريج، ومشاركة عدد كبير من نجوم السينما العالمية (ستيف ماكوين، جيمس جارنر، ريتشارد أتينبرو). وإذا كان هذا الفيلم يحكي قصة هروب جماعي، فبعض الأفلام الآخرى، تناولت الهروب الفردي. كما تجلى في الفيلم الشهير ”الفراشة/ Pاپيللون”(1973)، بطولة ستيف ماكوين وإنجاز فرنكلين شافنر. وإذا كان هذا الفيلم الأخير قد طرح سؤال العقاب غير العادل، متجاوزا بذلك رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي التي طرحت سؤال الجريمة فحسب، فإنه تحول من مجرد سؤال عادي، إلى محاكمة مجتمع بأكمله. ومهما يكن الأمر بالنسبة للشريط الذي يتداخل فيه التاريخي (الواقعي) والتخييلي (الفني)، فإن الخيال الفني في فيلم الهروب الكبير، يقودنا إلى تأمل ذلك الهروب الجماعي الذي تم الاتفاق عليه (ولو بشكل ضمني) يوم 15 سبتمبر قصد الوصول إلى مدينة سبتة. فما أوجه التشابه والاختلاف بين الهروب الكبير على مستوى الشريط ونظيره على مستوى واقعة مدينة الفنيدق المغربية؟ فإذا كاد الهروب الجماعي المغربي، يشبه حالة فيلمية (فيلم الهروب الكبير)، فإن الهروب الفردي كما في فيلم الفراشة، فنكاد نعيشه كل يوم على مستوى الواقع (الحراكة).
بين الهروب الفيلمي والهروب الواقعي
إذا كان الهروب الفيلمي الكبير، قد جاء في سياق الحرب العالمية، هروبا من غياهب السجون الألمانية، وقسوتها ورطوبتها التي تنخر العظام والرئتين معا، وقسوة حراس السجن و معاملتهم السيئة التي تجعل السجناء يجلسون طوال الوقت يسحبون شعر رؤوسهم كالمجانين. فما وجه المقارنة بين سجناء ألمانيا وشباب المغرب الذي هرول في منتصف شهر سبتمبر، مقررا القفز كالأرانب أو السباحة باتجاه مدينة سبتة؟ هل سئم هذا الشباب إلى هذا الحد؟ هل هذا الوطن يشكل في نظرهم سجنا كبيرا وقاسيا على المستوى الاجتماعي وكذا الاقتصادي وضاقوا درعا من البطالة والفاقة؟ هل حاول هذا الشباب الهروب من قسوة مسؤولي هذا الوطن الذين راكموا الثروة وتحكموا في رقاب العباد، وفي قوتهم اليومي، حتى أصبح هذا الشباب، يراهم كحراس سجن في غلظتهم وجبروتهم؟ مهما تعددت الأسئلة وتباينت الأجوبة، فإن واقع الحال، يشهد على أن مدينة الفنيدق شهدت حالة خاصة لمئات الشباب والقاصرين الذي تدفقوا بشكل منظم في محاولة للوصول إلى مدينة سبتة التي لا تبعد سوى ب 7 كيلومترات. لكن القوات العمومية، التي كثفت حضورها على طول الشاطئ لمنع محاولات الهجرة غير الشرعية، شكلت سدا منيعا لهذا الهروب الكبير. وأعادت ترحيل هؤلاء الشباب إلى مناطقهم الخاصة من خلال عمليات الترحيل.
من الهروب إلى الترحيل
تزامن هذا الهروب الكبير مع عمليات ترحيل مهاجرين جرى إحباط محاولات تسللهم إلى سبتة. حيث تم ترحيل 600 من القاصرين الراغبين في الوصول إلى الثغر الإسباني نحو مدن مختلفة داخل المملكة في الأيام الثلاثة الأخيرة من ليلة الهروب الكبير. كما رحلت قوات الأمن نحو 2400 شخص من المرشحين المحتملين للهجرة في إطار الدعوات التي لاقت انتشارا واسعا في الشبكات الرقمية من خلال دعوتها للهجرة الجماعية اتجاه مدينة سبتة. ظهرت على إثرها العديد من مقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لشباب يدعون إلى هجرة جماعية من الفنيدق في شمال المغرب إلى مدينة سبتة. حيث لاقت هذه المقاطع إقبالا لدى فئة من الشباب الذين ركبوا المغامرة وقرروا تقاسم تدوينة الهجرة السرية في 15 سبتمبر الحالي. لكن الشرطة المغربية التي تعاملت مع هذه الدعوات بجدية تامة وأرسلت تعزيزات أمنية ومعدات متطورة إلى الشريط الساحلي الممتد بين مدينة الفنيدق ومدينة سبتة للتصدي لتلك المحاولات، فرضت رقابة على وسائل النقل المتجهة نحو مدينة الفنيدق. كما توجهت كذلك إلى المنصات الرقمية، واعتقلت حوالي 60 مواطنًا مغربيًا في 10 مدن مختلفة بتهمة التحريض عبر الإنترنت وفبركة ونشر الأخبار الزائفة. مما مكن السلطات المغربية والإسبانية التي كانت على وعي تام بخطورة المسألة إلى العمل بجدية وحزم للتصدي لهذا الهروب الكبير. لكن مهما يكن الأمر، فالسؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هو: لماذا هذا الهروب الكبير؟
لماذا الهروب الكبير؟
لماذا هذا الهروب الكبير؟ هذه هي المسألة كما قال هامليت في مسرحية شيكسبير. فما الدافع الحقيقي وراء هذا الهروب الكبير (علما بأن دوافع الهجرة الفردية معروفة/ الحريك)، وما الذي دفع هؤلاء الشباب للمجازفة بحياتهم ومستقبلهم بهذه الطريقة الجماعية؟ هل هي نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي أصبح يعيشها المواطن المغربي خلال السنوات الأخيرة، أم أن هناك عوامل أخرى سياسية أو اجتماعية دفعتهم لاتخاذ هذا القرار؟ وحتى لو افترضنا جدلا أن هؤلاء الشباب تمكنوا من الوصول إلى الضفة الأخرى بهذه الأعداد الكبيرة، فهل سيغير ذلك من وضعهم المادي؟ هل يمكن ربط هذا الهروب الجماعي، بسلوكات ناتجة عن دعوات مشبوهة مغرضة تغرر بالقاصرين وتنشر معطيات خادعة؟ أسئلة وأخرى، نرى من جهتنا على الأقل أنه على مختلف وسائل الإعلامية الوطنية التنبيه إلى خطورة مثل هذه الأمور، من أجل سلامة الوطن والمواطن. وإذا كان القانون المغربي يجرم فعل التحريض بالسجن النافذ ومعاقبة كل شخص غادر التراب المغربي بصفة سرية بالحبس من شهر إلى 6 أشهر، ويعاقب المهرب أو المحرض ومن كان معهما خلال ارتكاب هذا الفعل بما بين 4 و8 سنوات.
وإذا كانت كذلك المقاربة الأمنية التي نهجتها السلطة المغربية، لإحباط هذا الهروب الكبير، ناجعة لأنها تسعى لحماية الوطن والمواطن، فإن الإجراأت القانونية (العقوبات)، لا تشكل الحل الملائم. بقدر ما يكمن الحل في بناء المواطن، وخلق تنمية مستدامة تسير بالمواطن والوطن نحو التنمية والتطور. لكن إخراج المشاريع التنموية التي من شأنها تحقيق ذلك، إلى حيز الوجود الفعلي، يتطلب بالدرجة الأولى، ربط المسؤولية بالمحاسبة. لكي لا يجد المواطن نفسه أمام مسؤول يعيث في الوطن فسادا، فيشبهه بحارس ذلك السجن الألماني في فيلم ”الهروب الكبير. وإذا تحققت التنمية الحقيقة على أرض الواقع، فلن يغادر المواطن وطنه. لأنه كما يقول المثل الشعبي المغربي ”حتى قط ما كيهرب من دار العرس. لكن إذا بقيت القطط السمينة تجول وتصول في العرس (العراسات)، و الهزيلة تطوف على القمامات بعد منتصف الليل، فلا تنتظر سوى مثل هذا الهروب الكبير.
ألم أقل لكم إنها مسألة وطن، قبل أن تكون مسألة هروب كبير.