- بقلم: د. فتحية محمود صديق
عندما نسمع أو نقرأ كلمة هزيمة، يتوارد إلى الذهن ما يذكرنا بالحروب والصراعات، فالهزيمة تعبير عن حالة الانكسار والإخفاق والفشل والتنازل والاستسلام، والكتابة في هذا الموضوع ليست ترفا في ظل هذه الظروف القاسية التي يمر بها الوطن العربي – كما قد يعتقد البعض – ولكني أراها ضرورة إذا أردنا أن نعرف الأسباب الأساسية لهزائمنا الكبرى في كل المجالات وعلى كافة الأصعدة.
وحرب اللغات ليست جديدة على البشرية إذ يرى الكاتب الفرنسي لويس جان كالفي مؤلف كتاب (حرب اللغات والسياسات اللغوية) إن حرب اللغات حتمية ومحفورة في التاريخ البشري، وما زالت مستمرة، ويقصد بها اكتساح لغة متغلبة على غيرها.
وقد حدد ثلاثة أسباب لذلك، أولها القوة الجبرية: وذلك عندما تفرض الدولة الاستعمارية لغتها بالقوة على سكان الدولة المستعمرة، والسبب الثاني هو الغزو اللغوي الناتج عن الثقل الحضاري والنفوذ الديني عندما أصبحت اللغة اليونانية القديمة، ثم اللغة العربية منارا للعلم والثقافة في العالم، أما السبب الثالث فهو ما نشاهده اليوم من انتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة، والتواصل الاجتماعي واستخدام اللغة الإنجليزية، فقد أصبح الجميع يتسابق إلى تعلمها كونها أصبحت لغة العلوم والتجارة، والأرضية المشتركة للتواصل والتفهم بين الناس في دول العالم، خاصة وأنها سهلة التعلم ومواكبة لكل التغييرات العصرية، ويتم الترويج لها كمقياس للكفاءة، هذه الأسباب الظاهرة، أما الحقيقة تكمن في سيطرة الناطقين بها على العالم اقتصاديا، وثقافيا، وعسكريا، وسياسيا، وبالتالي فرض لغتهم وثقافتهم وتجاربهم ورؤيتهم للحياة على الآخرين بسلاسة.
يؤكد الخبير اللغوي الألماني أولريتش أمون أن اللغة الإنجليزية ستبقى على رأس جميع اللغات الأخرى على امتداد المستقبل المنظور، وحتى من الناحية الثقافية تعتبر اللغة الإنجليزية اللغة المحورية الأولى عالميا للمنشورات المكتوبة (المترجمة). حرب اللغات مهما تعددت أسبابها أدت إلى موت عدد من اللغات الحية التي يتكلم بها مجموعات مختلفة من البشر، ويقصد بموت اللغة نقص عدد متكلمي اللغة بسبب موت متحدثيها أو إجبارهم على ترك لغتهم وتعلم لغة أخرى، وهناك ما يعادل 300 لغة من بين 600 لغة عالمية معرضة للانقراض، وموت لغة ما وانقراضها لا يعني فقط فقدان الوسيلة التواصلية بين الأجيال السابقة الذين يتحدثون بها، ولكن يعني أيضا فقدان ما يتعلق بهذه اللغة من تراث حضاري: علمي وثقافي واجتماعي وتاريخي.
ذكر تقرير اليونسكو بشأن المحافظة على اللغة الأم أن 40 % من السكان حول العالم لا يحصلون على التعليم بلغة يتحدثونها أو يفهمونها، واعتبر أن أي لغة معرضة للانقراض إذا لم يتعلمها على الأقل 30 % من أطفالها.
وعلى رغم أن اللغة العربية هي إحدى أكثر اللغات انتشارا في العالم، إذ يتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة، وتم الاعتراف بها لغة رسمية في أروقة الأمم المتحدة، واعتماد يوم 18 ديسمبر يوما عالميا للغة العربية، إلا أنها اليوم تعاني صراعا وجوديا، وهجوما كاسحا في قعر دارها من اللغات الأخرى خاصة اللغة الإنجليزية، لجمود أساليب تعليمها وتعلمها في المدارس أدت إلى نفور الطلبة منها، وذلك بسبب تقاعس المؤسسات التعليمية عن القيام بدورها في وضع السياسات اللغوية، وتحديث مناهج اللغة العربية بما يواكب العصر، ناهيك عن تسابق الأهل في تفضيل تعليم أولادهم اللغة الإنجليزية تحسبا لفرص جيدة لهم في المستقبل في العمل والتنقل والمعيشة في ظل العولمة، مما أدى إلى ضعف العربية وتقهقرها في مواجهة الغزو اللغوي والفكري الأجنبي، وربما ذلك يفسر ما يحدث اليوم من تدهور في الإدراك، والوعي المجتمعي وتراجع مخيف في القيم والأخلاق، فالتعليم باللغة الأم في مراحل التعليم المبكر- كما تشير إليه الأبحاث – يسهل التعلم ويوسع الأفق ويدعم الإدراك.
إن اختلاف اللغات بين البشر آية من آيات الله، تزدهر بها المجتمعات الإنسانية، ويحتفل العالم منذ عام 2000 باليوم العالمي للغة الأم بتاريخ 21 فبراير من كل عام الذي حددته اليونسكو لحماية اللغة الأم ولتشجيع التنوع اللغوي والثقافي، وبمبادرة من بنغلادش التي ناضل أبناؤها من أجل الاحتفاظ بلغتهم وهويتهم، فعندما تأسست دولة باكستان عام 1948 كانت مكونة من جزأين شرق باكستان المعروف اليوم باسم بنغلادش، وغرب باكستان والمعروف اليوم باسم دولة باكستان، وكانت كلاهما مختلفتين في الثقافة واللغة، ومع ذلك تم فرض اللغة الأوردية لغة وطنية وحيدة في البلاد، بالرغم من أن معظم السكان كانوا يتحدثون اللغة البنغالية، ولم يستسلم البنغال وناضلوا من أجل الاعتراف بلغتهم الأم ونجحوا في ذلك.
كما أن بعض الدول بدأت في تشجيع اللغات المحلية، ومثال ذلك اللغة الويلزية في ويلز في المملكة المتحدة، حيث كانت تعاني صراعا مع اللغة الإنجليزية لغة الدولة الرسمية إلا أنها استطاعت أن تحل المشكلة بفضل القيام بخطوات عملية وفعالة نحو تعزيز تعلم اللغة الويلزية بدفع عدد متزايد من الأطفال لتعلمها في المدارس ورياض الأطفال، وأصبحت اليوم تستخدم بصفة رسمية في المؤسسات وفي الحكومة المحلية، ولاشك أن تجارب دول عظيمة مثل كوريا والهند والصين واليابان هي أمثلة واضحة للعيان إذ حافظت هذه الدول على لغاتها الأم وتعلموا بها وأبدعوا وأصبحوا في مصاف الدول الرائدة علميا وتقنيا مع الحفاظ على هويتهم. هذه الممارسات العالمية لدول وأقليات ناضلت من أجل الحفاظ على لغتها الأم يجب أن نقتدي بها ونسعى إلى الاستفادة منها.
يجب أن يكون هناك وعي مجتمعي بخطورة فقدان اللغة والهوية العربية، ولهذا تقع علينا جميعا مسؤولية كبرى لحماية اللغة العربية والحفاظ عليها (فاللغة لا تحمي ذاتها) وذلك من خلال اهتمام المؤسسات التعليمية بمناهج اللغة العربية، لتحسين مستوى الطالب في مجالات تعلم اللغة وممارستها، مثل القراءة الحرة وتضمينها في الجدول الدراسي اليومي، والاهتمام الأقصى بالكتابة، بالتدرب على الكتابة (الوظيفية والتواصلية) منذ سن مبكرة، التدرب على الحوار وتطوير القدرة على الاستماع، الاهتمام بالمعلمين بتحسين مستواهم المعيشي وتطوير قدراتهم وتدريبهم على استراتيجيات جديدة وتقنيات تربوية مواكبة للعصر تجذب الطلاب ولا تنفرهم من لغتهم الأم وتساعدهم على الإحساس بالفخر إزاءها، إضافة إلى سن القوانين والتشريعات اللازمة نحو تحقيق هذا الهدف دون أن نتخذ خطوات عملية جادة لحماية اللغة العربية فلن نستطيع أن نصمد كثيرا أمام هذا الاحتراب الذاتي الذي سببه اقتراب هزيمتنا في حرب اللغات.
*كاتبة و خبيرة تربوية يمنية