لكلِّ زمنٍ تلاميذته من «جيل قمش» و«مغفلوه من المعلمين»

بقلم: زكية لعروسي

وأنا أجلس إلى ورقي لأكتب عن الذكريات وللذاكرة، أدركت أنني أخوض في واقع مرير، يتقاطع مع ما عشناه في وقت مضى، ويبتعد كثيرًا عن حاضرنا وجيلنا. إنه واقع متصل بالأحلام والخيال، ومتناقض مع لحظة يصعب فيها الحديث عن جيل أصبح يعيش في عزلة عن الكتابة، ويمجد منصات مثل “تيك توك”.

نحن أيضًا كنا تلاميذة صغارًا نتأهب حين قدوم الموسم الدراسي. كانت هناك استعدادات للدخول المدرسي، بسيطة ومتواضعة ” على قْدّْ الحالْ”، فلم يكن الهم الأول لدينا ان نتسارع للإجابة عن مزاد اسئلة من مثل: أين قضينا عطلتنا الصيفية؟ أو إلى أي بلد من اوروبا او آسيا سافرنا؟ بل كان همنا: من سيكون معلمنا؟ هل هو معلم جيد سيغرس فينا حب التعلم، أم رديء، جاف سيبخس حقنا في التلقين؟ فقد كنا واعين بأن بالمعلم الجيد نصل لما لم ندركه، وبالمعلم الرديء نظل أسرى الجهل لانه كان يمثل نافذتنا على الفكر والعبر، وكان لسان كتب العلم والادب حتى لا نسقط في الخمول ونترك التعلم منذ حداثة السن.

ما كان يقلقنا ايضا هو: من سيكون رفيق طاولتنا؟!، وهل ستكون لابائنا وأمهاتنا الإمكانيات المادية لشراء لوازمنا المدرسية من دفاتر و” استيلويات بيك” وخاصة الأخضر لتصحيح الاخطاء، والأقلام الملونة لتلوين الخرائط، حتى لا نلتجأ لطلبهم من رفيق أو رفيقة الطاولة في كل مرة كانت الحاجة لاستعمالهم.

كانت الأمهات هن السند والداعم الأكبر. لم يكن آباؤنا يظهرون كثيرًا في تفاصيل الاستعداد للدراسة (دورهم كان العمل في خفاء على تدبير وتوفير المال لاقتناء ما يلزمنا من ادوات مدرسية). ما زلت أتذكر كلمات الام خيرة، وهي تحثنا على التركيز والاهتمام: ” مين المعلم يشرح أو يتكلم حلوا وذنيكم وانصتوا، راه التعلم في الصغر كالنقش على الحجر”، و ” ما تهدروش مع اصحابكم او تضحكوا وهو يشرح” ففكرة المعلم عن التلاميذ تتكون في الساعات الأولى من الدخول المدرسي ” النهار الزين يبان في صباحو” ” ومين يطرح السؤال رفعوا اصابعكم، حتى يشوفكم ، وعندكم تبقاوا لابسين اشواشي، فهذا من عدم الاحترام، وغادي تنعسوا في القسم إلا مشيتو بهم”..عبارات ما زالت تدغدغ مسامعي كلما اقترب موعد الدخول المدرسي، كانت ترددها الام خيرة وهي تحضر لنا فطورًا بسيطًا ” الحديث والمغزل”، والذي كان: خبزًا محمصًا وزيت الزيتون من ارض أجدادنا ” الطرشة”، و”برادًا من اتاي” و” غلاية ديال القهوة”، بينما الحليب كان شحيحًا ولم يكن متوفرًا دائمًا. وإن توفر كانت به وجبات العشاء ” بركوكش (المحمصة) أو الروز بالحليب”.

المدرسة كانت تمثل للكثير منا الخلاص من الفقر والجهل، فبعد غسل الام خيرة أجسادنا ب” مقراج ديال الماء مدفي” والإتيان علينا الواحد بعد الآخر، بدل الذهاب إلى الحمام العمومي، وتوفير الوقت (كنا تسعة إخوة) والاقتصاد في الماء و الدراهم (40 دور آنذاك والصغار باطل او ب10 سنتيمات). نرتدي ملابس عيد الفطر التي كانت تُحفظ لليوم الأول من الدراسة، ام للمناسابات. وتمشط شعرنا، لنتوجه بعد ذلك كجيوش نمل إلى مدارسنا: الذكور ل”مدرسة البنين”،والإيناث ل”مدرسة البنات”.

كانت أيامًا فيها من الشوق لاكتشاف وجوه جديدة والخوف من الرسوب، وخذلان الأمهات اللاتي كنَّ مجندات لإدارة حياتنا بكل تفاصيلها صباحا مساءا، إذ كن تجمعن من الحكم الرفيعة، والمذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة، والامثال السائرة ما يجمعه كتاب باكمله.

وفي الفصل، كان المعلم يتجول بين الصفوف بقضيب من خشب، رمزًا للهيبة والطاعة، واداة لضبط النظام. فالعصا كانت جزءًا من تربية الآباء والمعلمين على حد سواء، وفي هذا الصدد، يحضر لنا ما ذكره الجاحظ عن ” المغفلين من المعلمين” حالة معلم مغلوب على امره، فقال : ” ومررت بمعلِّم صبيان وهو جالس وحده وليس عنده صبيانه فقلت له: ما فعل صبيانك؟ قال: ذهبوا يتصافعون. فقلت: أذهبُ وأنظرُ إليهم. فقال: إن كان ولا بد فغَطِّ رأسَك لئَلَّا يَحْسبوك أنا فيصفَعْوك حتى تعمى. ”

وما ذكره الجاحظ في هذا المجال غني وينطبق على وضع مدارسنا وقلة حيلة المعلمين من دون عصى إذا نشب شجار بين التلاميذ العصا الحسم والحل، وقد حكى الجاحظ : ” ورأيت معلمًا قد جاءه غلامان قد تعلق كل واحد منهما بالآخر فقال: يا معلم، هذا عض أذني. فقال: ما عضضتها وإنما عض أذن نفسه. فقال: يا ابن الخبيثة هو جمل حتى يعض أذن نفسه؟

فالعصا كانت تمثل الحل والحسم في مثل هذه المواقف وبمثابة تنبيه لمن سولت له نفسه السقوط في الفوضى، فشعار المعلم كان” العصا لمن عصا” ، وفي مثل هذا يقول. الجاحظ: ” ضرب معلم غلامًا فقيل له: لِمَ تضربه؟ فقال: إنما أضربه قبل أن يذنب لئلا يذنب.”

لم يكن أحد يعترض على هذا الأسلوب، إذ كان استمرارًا لطريقة التربية الصارمة في البيوت. فلا تكاد أسرة تخلو من هذا النمط او الأسلوب في التربية إلى حد الآن لتقويم الاعوجاج في التربية (وهذا موضوع آخر وسنخصص تحليلا فيما بعد لهذه المادة ). وفي هذا الصدد قال الجاحظ: “أتت امرأة إلى معلم بابن لها وكان المعلم طويل اللحية فقالت: إن هذا الصبي لا يطيعني فأحب أن تفزعه، فأخذ المعلم لحيته وألقاها في فمه وحرك رأسه وصاح صيحة فضرطت المرأة من الفزع وقالت: إنما قلت لك فزِّع الصبي ليس إياي! فقال لها: مري يا حمقاء إن العذاب إذا نزل هلك الصالح والطالح.”

فعلى الرغم من أن الأساليب العنيفة في التربية بدأت تتلاشى، إلا أن ما كان يُميز معلمينا في الماضي هو التزامهم الكامل بتعليمنا، دون أن ينشغلوا بهواتفهم أو يسعوا وراء الدروس الخصوصية. كانوا يعيشون معنا كل لحظة، يُغرسون فينا حب المعرفة، ويبنون شخصياتنا الفكرية دون خيانة أو نفاق. لم تكن النقاط مرتبطة بعلاقات شخصية أو مادية، كما هو الحال في زمننا هذا، حيث أصبح الربح السريع وتضخيم الحسابات هو الهدف الأسمى للكثيرين ممن يدعون تربية الأجيال، وقد ذكر الجاحظ في “المغفلين من المعلمين ”

“مررت بمعلم وقد كتب لغلام: «وإذ قال لقمان لإبنه وهو يعظه: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا وأكيد كيدًا فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا.» فقلتُ له: ويحك! فقد أدخلت سورة في سورة. قال: نعم إذا كان أبوه يُدخل شهرًا في شهر فأنا أيضًا أُدخل سورة في سورة فلا آخذ شيئًا ولا ابنه يتعلم شيئًا”

وكان الجاحظ يصف ما اصبحنا نلمسه في وقتنا، من حيث إذا افتقر التلميذ حقره المربي، وإن لم يشارك في برنامج الدروس الخصوصية قطع عنه المربي الفائدة وأضعف من حجم نقاطه، وانقلب عليه، فيصبح التلميذ جليس الوحدة ، منعزلا، ويمنع من الجلوس على كراسي المعرفة. وما ” خفي فهو اعظم” الجاحظ تحدث عن ظواهر مشابهة منذ قرون. حكى عن معلم كان الأطفال يسخرون منه وينتفون لحيته، ومع ذلك كان يتحمل الأمر ويعترف أنه أهمل واجبه: “” قال بعضهم: مررت بمعلم والصبيان يضربونه وينتفون لحيته، فتقدمت لأخلصه فمنعني وقال: دعهم، بيني وبينهم شرط إن سبقتهم إلى الكُتَّاب ضربتُهم وإن سبقوني ضربوني، واليوم غلبني النوم فتأخرت ولكن وحياتك إلَّا بكرت غدًا من نصف الليل وتنظر فعلي بهم. فالتفت إليه صبي وقال: أنا أبات الليلة ها هنا حتى تجيء وأصفعك.”

وصف الجاحظ واقعًا يشبه ما نعيشه اليوم، حيث يتبادل التلاميذ والمعلمون الأدوار، وحيث اختلت معايير الاحترام والطاعة، وحضور الالفاظ الساقطة، والمعاني الفاسدة ، والجهالة الذميمة، و مقارعة التلاميذ لمربييهم، ف” رجع القلمون عند الرجلين” كما تقول الام خيرة، و ” كلشي تبدل غي اللي ماقد على شي” . زمان يصنع التلميذ ” الشتا والشمس، ويحرك الريح “، ولن تنفع. لا الكلمة ولا عصاالمعلم.

فلا تيأسوا ولا تقنطوا من رحمة الله ايتها الأمهات وايها الآباء، فجاحظنا  بحكاياته عن المعلمين المغفلين والصبيان اكد لنا ان لكل زمن تلاميذة قمش ديالو ومعلمون مغفلون” ، فخفف من ازماتنا النفسية حتى لا نسقط في المغالاة وتضخيم الأمور، ولا نلوم مربيي اولادنا، فإنها اشياء لازمة لطبائع الناس ومستمرة بوجوه لا تشبه غيرها. فلكي تكون السلامة والغنيمة في التعليم، وإثبات الاصل مع استفادة الفرع، يجب ان يكون المعلم كفؤا ليشحد طباع التلميذ أو الطالب بعد الام والاب، ويبسط لسانه، ويعمر صدره بعد آبائه، فيجب أن يكون الوعاء المعرفي للتلميذ ولا أن يكون مثل المؤذب الذي روى عنه الجاحظ:

” قال سمعت أبا بكر يقول: مررت بمؤدِّب وقد تلا على غلام: «فريق في الجنة وفريق في الشعير». فقلت: ما قال الله من هذا شيئًا إنما هو: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير فقال: أنت تقرأ على حرف أبي عاصم بن علاء الكسائي وأنا أقرأ على حرف أبي حمزة بن عاصم المدني، قلت: معرفتك بالقراء أعجب وأغرب.”

فلا ” يتناطح في شان دور المعلم كبشان او اكباش”، إذ يتفق العربي والهندي، والاوروبي والأمريكي والإسكندنافي، ويجمع على الأول والآخر، والشاهد والغائب على ضرورة توفر الكفاءة في المعلم لأنه هو من يخضع التلميذ لشم رياحين علوم وآداب غرسها الموتى والاحياء وترجموها في الكتب، بالرغم من الاعوجاج الذي قد اصاب وقد يصيب التلاميذ عن الكتاب الذي منه المعرفة والتدبير، ولو قل ورقه، ورخص ثمنه.

” فهايْ يا هايْ..كيف تبدلات الأيام” منذ افتقر المعلمون إلى الثقافة التي كانت تميزهم، وبات التلاميذ يعيشون في عالم سطحي، يتابعون التفاهات التي تغرقهم في الجهل وتبعدهم عن طلب العلم والأدب. وتجعلهم طائعين وخاضعين لتعاليم علماء التيك توك الذين أصبح منهم بيان ابنائنا، شجرة عمرهم وطيب ثمارهم، و سرعة إدراكهم، إلى درجة اننا لا نحتاج ان نحلل أو نقوم بنقد قول الزهري الذي ذكره جاحظنا في كتاب “المحاسن والاضداد”: ” الأدب ذِكرٌ لا يحبه إلا الذكور من الرجال ولا يبغضه إلا مؤنثهم”

لأنه قد استوى الكثير من إيناثنا وذكورنا في هذا، فمن يتذوق منهم. الأدب، وقد ألقى الجميع بنفسه إلى تهلكة أئمة التيكتوك، ما علينا إلا ان نتمسك بالأمل. فالتربية والتعليم يجب أن يكونا مسارًا لتكوين، عقول وبنية شخصية ابنائنا ليكونوا قادرين على مواجهة تحديات المستقبل، والمعلم يجب أن يكون شريكًا للأهل في هذا البناء، يغرس حب العلم والفضيلة فيهم، ويقودهم نحو المعرفة دون استغلال أو نفاق. وحتى لا يسقط ابناؤنا بين مخالب الجهل، والسطحية، والتفاهة التي يجسدها إمامات وائمة التيك توك، فمن يترحم علينا؟ وقد ضاع أبناؤنا في مستنقع تفاهة -هي إيذاء وتلف للقبلة و مكارم الاخلاق- أكثر مما ضاع من عمرنا في البحث عن المعرفة، و الطريق الموصلة إلى” المدينة الفاضلة”….