بقلم: سعيد بوعيطة
درج القول لمن ينسى ما فعله، بأن لديه ذاكرة سمكة (على الرغم من أن الأبحاث العلمية أثبتت أن للسمكة ذاكرة قوية)، والسبب الرئيس في إلصاق السمكة بخاصية ضعف الذاكرة، أنها تأكل الطعم من سنارة الصياد، ولكنها على الرغم من أنها تفلت من الفخ أحيانا، فإنها تعود على الفور لتناول ذات الطعم من السنارة نفسها، لتعود إلى عادتها. كما عادت حليمة (زوج حاتم الطائي بعد حزنها على وفاة ولدها)، إلى عادتها القديمة في التقليل من وضع السمن في الطعام اعتقادا منها أن ذلك سيقرب أجلها ويسرع وفاتها.
وإذا كانت ذاكرة السمكة على هذه الشاكلة، فإننا نجد بالمقابل الفيل (والجمل) بذاكرة مختلفة، طويلة الأمد. يستعيد هذا الحيوان الوقائع والأحداث بعد فترة طويلة من الزمن، ويتصرف وفقًا لها. لهذا، نقول عن شخص معين، إنه يملك ذاكرة الفيل. أما العرب، فقالت: فلان له ذاكرة الجمل. لذلك، يضرب الناس المثل بذاكرة السمكة باعتبارها تمتلك ذاكرة قصيرة، مقابل ذاكرة الفيل أو الجمل.
ينطبق هذا التصنيف من الذاكرة على الإنسان العربي (خاصة الإنسان العادي/المواطن). فالمواطن الذي لا يأخذ العبرة من تجاربه السابقة ولا يتعظ بماضيه، يقال إن لديه ذاكرة سمكة. فلو عدنا بالذاكرة إلى الخلف، سنجد أن السواد الأعظم من الأمة العربية، يعاني مما تعاني منه السمكة من ضعف ذاكرة مزمن. قد يصل أحيانا عند البعض إلى حد الألزهايمر. وربما يمتلك البعض ذاكرة أضعف من ذاكرة السمكة. فهل للإنسان العربي فعلا ذاكرة السمكة؟ وإذا افترضنا جدلا أن المواطن العربي، له ذاكرة السمكة، فهل ذاكرة المسؤول العربي المتربع على كرسي المسؤولية له الذاكرة نفسها، أم له ذاكرة الجمل لأن العمل السياسي يتطلب ذلك؟
ذاكرة للجمل وأخرى للسمكة
لم يأت وصف ذاكرة الإنسان العربي بذاكرة السمكة من فراغ، بقدر ما تميز بها (ولا يزال يتميز بها) على طول خريطة العالم العربي. حيث يسهب المسؤول (وهو ينصب أمامه العشرات من الميكروفونات) في الحديث عن احترام الحريات العامة، فهل قام بذلك؟ ويسهب في الحديث عن تعزيز الشفافية و بناء دولة المؤسسات والدولة المواطنة، فهل تحقق ذلك؟ ويسهب في محاربة الفساد الذي بات يعرقل كل تنمية، ويؤثر على الدولة ومؤسساته، فهل تقدم في محاربة هذا الفساد أم ساهم فيه ووسع من رقعته؟ ويسهب في الحديث عن مؤسسات تعاني من ترهل إداري يؤثر على مستوى الخدمات المقدمة جراء انتشار الواسطة والمحسوبية، فهل تم الحد من هذا التوسط وكذا هذه المحسوبية؟ ويسهب في الحديث عن الحجم المخيف للمخدرات التي باتت تعصف بالشباب العربي وتؤثر على عقله قبل جيوبه، فهل تم إيقاف تلك السموم وتقديم بارونات المخدرات للعدالة؟
كثير هوالكلام الذي يسهب فيه هذا المسؤول أو ذاك، وكثيرة كذلك هي علامات الاستفهام التي توازي كلامه وتنبثق عنه باعتباره كلاما مضللا. لكن المواطن يراهن عليه في كل المناسبات والأحوال. وإذا كان المسؤول يحقق مصالحه بهذ الدجل، فإنه يجعل المواطن (الوطن) يدور في الدائرة عينها دون تقدم للأمام. كأنه حمار الطاحونة كما يقول المثل المغربي. يظن هذا الحمار من خلال عمله الشاق، أنه يسير بعيدا حينما يربطه عامل الطاحونة في حبل يدور في حركة دائرية من أجل طحن القمح أو غيره، بينما هو يسير في قطر دائرة ضيق، ولا يبرح مكانه. يضن حمار الطاحونة أنه يطوف بلاد الله الواسعة طولا وعرضا، فإذا به لا يذهب بعيدا عن طاحونة الطحان.
لأن هذا المسؤول لا يجيد إلا الكلام والخطاب الفارغ (الشفوي كما يقول المغاربة) غير المجدي والمراوغ. فلا أسهل من هذا الكلام (الشفوي). خاصة وأن أبجديات اللغة العربية فيها من كلمات الوعد والتحفيز والانشاء ما يحقق ذلك. لكن ألم يحن الوقت لانتقال هذا المسؤول من هذا الشفوي إلى العمل المحقق في الواقع المعيش، ومن الخطابة المزيفة للتطبيق؟ أم أن هذا المسؤول له ذاكرة جمل، وهو على وعي تام بأن المواطن لا يملك سوى ذاكرة السمكة، وأن السواد الأعظم من الناس سريع النسيان، و لا يتذكر ما قطع عليه من وعود في هذه الحالة/ الحالات السابقة؟ هذه الأسئلة وغيرها تجعلنا نقول: أيها الناس، انصتوا يرحمني ويرحمكم الله، البلاد والعباد في حاجة لإصلاح شامل. لا يحتاج الوطن لإعادة صنع العجلة التي لا تدور، بقدر حاجته لوضع الحصان أمام العربة (كما يقول المثل الإنجليزي). فهل لهذا المسؤول ذاكرة السمكة ليخلف وعوده؟ الجواب بالطبع بالنفي. المسؤول ليست له ذاكرة السمكة لأنه على وعي تام بأقواله التي تخالف أفعاله. ذاكرة السمكة هي ذاكرتنا نحن (ذاكرة المواطن).
المواطن وذاكرة السمكة
بين ذاكرة السمكة وذاكرة الجمل (أو الفيل)، نجد أنفسنا أمام صنفين من المواطنين، الأول يملك ذاكرة السمكة، والثاني يملك ذاكرة الجمل أو الفيل. الصنف الأول لا يتعلم من أخطائه ولا يدرك الخطر إلا بعد فوات الأوان. بل يرتكب ذلك الخطأ مراتٍ عديدة دون أن يتعلم أو يرتدع. لكنه فى كل الحالات غير واعٍ لما جرى له ولا مدرك لما فعل. غالبا ما يكون هذا النوع مغلوبا على أمره، ولا يدرك مغبة ما فعل. و لا يتذكر القريب ولا البعيد زمانًا أو مكانًا. يكون ابن لحظته (همه الورقة الزرقاء). حيث تحوله هذه الورقة الزرقاء إلى كلب بافلوف. لأنه يملك ذاكرة السمكة بقصرها وسطحيتها وقلة تأثيرها. وهذا هو السواد الأعظم من الأمة العربية الذي سيبقى على حاله إلى أن يدخل خريف العمر. مما يجعله لا يملك ذاكرة السمكة ولا غيرها، بل يفقد الذاكرة، وتصيبه لعنة الحياة. وما عليه في هذه الحالة إلا أن يردد في سره وعلنه الدعاء الشائع ”اللهم اجعل خير أيامنا خواتيمها واجعل خير أعمالنا آخرها”، فما أصعب الدنيا على المرء حينما تعشش لديه ذاكرة السمكة. إنها الدنيا لمن لا يعرف، تبدأ بذاكرة سمكة وتنتهى بها، وتمر بين الاثنتين بذاكرة الفيل عالميًا والجمل عربيًا إذا جاز التعبير.
وإذا كان المسؤول يمتلك ذاكرة الجمل في أغلب مراحل حياته، لأنه على وعي تام بأقواله وأفعاله، فإن المواطن العربي العادي، يمتلك ذاكرة السمكة. ينسى وعود المسؤول وبرامجه المزيفة وكلامه المعسول بسبب وبدونه. وإذا كان هذا هو حال ذاكرة الإنسان العربي، المتأرجحة بين ذاكرة السمكة وذاكرة الجمل، فإن بعض الدول العربية التي هي اليوم على أبواب الإنتخابات، يتميز فيها المواطن بذاكرة السمكة، فيما يتميز المسؤول بذاكرة الجمل. فهل هذا المواطن على وعي بذلك؟ إذا كانت المؤشرات الأولية لا تشي بذلك الوعي الممكن إذا استعرنا العبارة من لوسيان جولدمان (صاحب كتاب الإله الخفي) لتجاوز ذاكرة السمكة، فعلى كل من المسؤول والمواطن السعي لتحقيق العدالة. باعتبار العدل أساس الملك (المسؤولية) على حد تعبير العلامة ابن خلدون (كما تنسب لأبي حامد الغزالي) رحمهما الله.