العقل العربي في كف «رافائيل باتاي»

بقلم: زكية العروسي

حين نتأمل الحديث عن “العقل العربي”، يتبادر إلى الذهن فورًا أعمال المفكر محمد عابد الجابري، ولا سيما في كتابه الشهير “نقد العقل العربي”. ومع ذلك، من غير المنصف أن نغفل عن الدراسة التي قدمها عالم الاجتماع المستعرب رافائيل باتاي في كتابه “العقل العربي (The Arab Mind)”. هذه الدراسة، التي استند فيها إلى أعمال مفكرين عرب كبار مثل المقريزي، ابن خلدون، وطه حسين، تظل جزءًا هامًا في تحليل العقل العربي قبل ما قام به الجابري.

رافائيل باتاي يتناول في دراسته مفهوم “العقل” بشكل مختلف، مشيرًا إلى أن طه حسين كان من أوائل المثقفين العرب الذين استخدموا هذا المفهوم في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” المنشور عام 1938، حيث تزامن هذا الطرح مع انتشار هذا المفهوم في الغرب. يتساءل طه حسين في هذا الكتاب عن طبيعة العقل المصري (وهذا ليس موضوعنا هنا)، وما إذا كان أقرب إلى العقل الشرقي أو الغربي في تشكيله الإدراكي: ” فهل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هل هو غربي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟! وبعبارةٍ موجزة جلية: أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي؟!” (ص 18-19).

باتاي لا يقف عند هذا التساؤل، بل يتعمق في مسألة أساسية: هل يمكننا الحديث عن “عقل عربي” موحد أم عن عقول عربية متعددة؟ من وجهة نظره، كان المثقفون العرب على وعي منذ قرون بوجود اختلافات واضحة في شخصيات الشعوب العربية وعقولها، ما يجعل من الصعب رسم صورة موحدة لما يمكن تسميته “العقل العربي”. فباتاي يؤكد أن هناك تنوعًا ذاتيًا بين العقول العربية، مشيرًا إلى أن الحديث عن عقل عربي مجرد هو ضرب من التعميم غير الواقعي.

باتاي يعزز رؤيته من خلال استشهادات من التراث العربي، مستندًا إلى أعمال ابن خلدون والمقريزي. يرى باتاي أن المقريزي، على سبيل المثال، كان مدركًا لهذه الاختلافات في العقلية العربية منذ قرون، وهو ما يظهر في قصصه التي تستعرض طابع كل منطقة عربية بشكل رمزي، مما يؤكد عدم إمكانية الحديث عن “عربي واحد”، بل عن صور متعددة لعرب متنوعين ، وهنا يذكر ما صاغه المقريزي بشكل قصصي عن كعب الأحبار ( هو أحد صحابة النبي (ص)، الذي قال: “إن الله تعالى لما خلق الأشياء جعل كل شيء لشيء، فقال العقل: انا لاحق بالشام، فقالت الفتنة: وانا معك. وقال الخصب: انا لاحق بمصر، فقال الذل: وانا معك، وقال الشقاء: انا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وانا معك” والذي يؤكد اننا لا يمكننا الحديث عن عربي واحد بل عن صور لعرب عدة ما مضى المقريزي في وصفه عن اخلاق وطبائع العرب قائلا:  ” لما خلق الله الخلق خلق معهم عشرة اخلاق: الإيمان والحياء والنجاة والفترة والكبر والنفاق والغنى والفقر والذل والشقاء. فقال الإيمان انا لاحق باليمن فقال الحياء: وانا معك. وقالت النجدة: وانا لاحقة بالشام، فقالت الفتنة: وانا معك، وقال الكبر: انا لاحق بالعراق، فقال النفاق: وانا معك، وقال الغنى: انا لاحق بمصر. فقال الذل: وانا معك. وقال الفقر: انا لاحق بالبادية فقال الشقاء: وانا معك” .

و في تحليله يتحدث باتاي عن الشخصية القومية العربية، بدل العقل العربي، الموجودة ولو بصورة مبهمة في وعي المجموعات التي اكتسب فيها الناس عادة التفكير على انهم أعضاء في امة ويتشاركون صفات قومية محددة، رغم تواجدهم داخل كيان سياسي أشمل، مستعينا في ذلك برؤية ابن خلدون لشخصية العرب البدو، مبرزًا أن طبيعة التوحش تميزهم، مما ينعكس على عمرانهم وأسلوب حياتهم. هذه الرؤية الخلدونية، كما يوضح باتاي، تساعد في فهم الشخصية القومية العربية وكيفية تكوينها عبر الزمن.. وقد استند في هذا إلى ما ورد في الفصل الخامس والعشرون من ” المقدمة” ( العرب لا يتغلبون إلا على البسائط ص 149) :

“وذلك أنّهم بطبيعة التّوحّش الّذي فيهم أهل انتهاب وعيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرّون إلى منتجعهم بالقفر ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلّا إذا دفعوا بذلك عن أنفسهم فكلّ معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه ولا يعرضون له والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم لأنّهم لا يتسنّمون إليهم الهضاب ولا يركبون الصّعاب ولا يحاولون الخطر وأمّا البسائط فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدّولة فهي نهب لهم وطمعة لآكلهم يردّدون عليها الغارة والنّهب والزّحف لسهولتها عليهم إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم ثمّ يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السّياسة إلى أن ينقرض عمرانهم والله قادر على خلقه وهو الواحد القهّار لا ربّ غيره.”.

ويذكر باتاي ما ورد في الفصل السادس والعشرون ( 149 – 150 ) من المقدمة لابن خلدون: “أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التّوحّش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلّة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسّياسة وهذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العاديّة كلها عندهم الرّحلة والتّغلب 1 وذلك مناقض للسّكون الّذي به العمران ومناف”.

وفي هذا السياق، يقترب باتاي من أفكار علماء النفس والاجتماع مثل كلايد كلكون (Clyde Klukhohn) وهنري موراي (Henry Murray ) اللذين ينبهان إلى ضرورة أن: ” قابلية الجماعة لأن يكون لها شخصية مشتركة هي كقابليتها لأن يكون لها ارجل مشتركة” فيؤكد كل منهما على أن الجماعات البشرية يمكن أن تتشارك في خصائص مميزة حين تنمو في بيئة مشتركة. هذا التأثير يبدأ منذ مرحلة الطفولة، حيث يتم غرس القيم الأخلاقية في “الأنا العليا” للفرد وفقًا لنظرية فرويد، وقبل ان تتسلم هذه الاخيرة (الانا العليا) زمام قيادة الشخصية وما زرع فيها من طرف الابوين والمربين ورجال الدين والمعلمين من سلوك الثواب (الخير) والعقاب (الشر). وبهذه الطريقة يصبح الفرد في نظر باتاي ممثلًا حقيقيًا لبيئته الثقافية والاجتماعية.

إذن، يمكن القول إن باتاي يسعى إلى تقديم تحليل مركب للعقل العربي، مستندًا إلى مفهوم الشخصية القومية وفكرة التنوع الثقافي والاجتماعي داخل العالم العربي. هذا التحليل يتجاوز النظرة السطحية لتوحيد العقل العربي، مشددًا على أهمية الاعتراف بالتنوع الداخلي الذي يشكل هويات العرب المختلفة. الشيء الذي يجعل -حسب باتاي- الكثير من الكتابات المختصة في علم النفس الاجتماعي وعلم الانتربولوجيا نادرا ما تستعمل ” العقل الجمعي”و “العقل العرفي” بل يستخدمون مصطلحات بديلة مثل ” الذات” أو ” الشخصية”، ويذكر على سبيل المثال ما قام به رالف لينتون (Ralph Linton) و ابرام كاردينر (Abram Kardiner) في محاولاتهما المبكرة للبحث في مشكلة الفرد وخليته الاجتماعية والثقافية.

فالعقل العربي عند باتاي يخضع للمظهر الجماعي بشخصيته القومية، ولكن في حقيقته وجوهره يختلف من فرد لآخر ومن بلد إلى آخر، لهذا من الصعب جدا الحديث عن عقل عربي نمطي امام الاختلافات المحلية. .