بقلم: عبد الدين حمروش
شاهدت برنامجا وثائقيا، بثته الجزيرة الوثائقية في الفترة الأخيرة. تدور أحداث البرنامج حول معاهدة كامب ديفيد: ما سبقها وما تلاها. ولأن المشاهدة حكمتها الصدفة، فقد فاتني كثير من المعطيات الضرورية للكتابة عنه، بشكل يوفي الموضوع حقه، من حيث الوقوف على بعض التفاصيل، على الأقل فِي ما ورد في البرنامج: لا أقل ولا أكثر. ولكن، لا بأس.. مادام الأمر لا يهمني، شخصيا، في بعده التوثيقي، على اعتبار أن للتاريخ رجالاته، الذين لست أحدا منهم على كل حال.
والواقع أنني لم أكن أرغب في مشاهدة البرنامج، أصلا، بعد سرعة معرفتي بكون مضمونه يؤرخ لمرور ثلاثين سنة على توقيع معاهدة كامب ديفيد، بين الرئيس الراحل محمد أنور السادات وإسرائيل. فلولا تلك الصور المعبرة عن عبور الجيش المصري قناة السويس، ما كنت لأستمر في مشاهدة البرنامج على الإطلاق. فقد كانت تلك الصور، بالقطع، مصدر افتخار واعتزاز، على طول تاريخ هذا الزمن العربي الرديء، الذي نراكم فيه الخيبة تلو الخيبة.. وكأننا صرنا عاجزين عن صنع لحظة انتصار “رسمية” وحيدة، من شأنها أن تعيد إلينا الاعتزاز بالنفس ولو قليلا.
لقد كان مشهد العبور التاريخي للقناة البحرية، الطعم الذي أغواني بالتسمُّر أمام الشاشة، في عملية قاسية لجلد الذات، وهي تستعيد أحداثا مرة من تاريخنا الأليم والقاتم..أي ما جرى بعد ذلك العبور المشهود طبعا. فأن ترى، على التوالي، مختلف الزعماء التاريخيين للصهيونية، من قبيل مناحيم بيجن، كولدا مائير، موشي دايان، إسحاق رابين، إسحاق شامير، أرئيل شارون، وغيرهم من عثاة الصهاينة.. أن ترى هؤلاء، دفعة واحدة، ليس في طاقة أي وجدان يتمتع بقدر من الحس القومي والشعور الإنساني. إنها لحظة صعبة فعلا، أن تنتقل بك الكاميرا إلى حدث اقتحام القدس من قبل إسحاق رابين، والقرصان موشي دايان، بحسب ما تحفظه ذاكرتي البصرية، إن لم يعتورها التلف، بفعل رغبتها في تلافي كل ما من شأنه أن يمارس تلك المازوشية القاسية على الذات، أقصد كياننا الهش.. ولكن، المُكابر.
لا أخفي سرا إذا قلت إن الألم عندي، في أقصى درجاته، مرتبط بالصورة. فأن أسمع، كيفما كان وقع ما يسمع قويا على الأذن، لا يجاري قوة ما أرى: مصافحة السادات لمناحيم بيجن، أوغولدا مائير، أومصافحة عرفات لإسحاق رابين، أو مصافحة أبو مازن لأولمرت. إنها الصورة، ووقعها على النفس، خصوصا إذا كانت صورة/ صورا تجتر معها تداعيات الهزيمة، والخيبة، واليأس، والضياع. هذا الكلام لا نقوله، فقط، ونحن بصدد ما نشهده من تدفق في مجال إعلام الصورة، وبالتحديد التي يكون مصدرها الأنترنيت. فقصة سيدنا إبراهيم معروفة، حين طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى. وباختصار، فالعيان أشد بلاغة من الخبر.
في هذا الإطار العام، تحضرني عدة مشاهد مؤرخة للانكسار العربي، يأتي في طليعتها مشهد اقتحام القدس كما ذكرت، والوقوف عند حائط البراق، أو ما يسمى حائط المبكى يهوديا، غِبّ ذلك الاقتحام مباشرة. إضافة إلى ذينك المشهدين، لا يفوتني أن أقف على مشهدين قويين، من حيث دلالاتهما الرمزية، وهما مشهدان لا يقلان بلاغة عن المشهدين السابقين. هذان المشهدان، وإن كانا يختلفان من حيث جريانهما التاريخي، ومكانهما، وأبطالهما، فإنهما لا يختلفان من حيث وقائعهما، وما يستتبعهما من دلالات نفسية ورمزية.
* المشهد الأول، يتعلق بلحظة دخول السادات- بيجن قاعة المفاوضات في كامب ديفيد، وعلى إثرهما الوفدان المرافقان بالطبع.
* المشهد الثاني، يتعلق بلحظة دخول عرفات- باراك قاعة المفاوضات في واي ريفر، مصحوبين بالوفدين المرافقين أيضا في ما بعد.
قبل دخول باب المفاوضات، كانت، هناك، مجاملة فِي من يدخل الأول: السادات أو بيجن، عرفات أو باراك ? بعد أخذ ورد بين المتفاوضين في كل مشهد، تمكن بيجن من إقناع السادات بالدخول هو الأول، مثلما أقنع باراك عرفات بالدخول الأول. السادات وعرفات ينكفئان، معا، بقبول الدخول قبل خصميهما، أي بيجن وباراك على التوالي. كان بالإمكان تفسير الأمر بكونه مجرد سلوك داخل في باب المجاملة، لولا تلك التداعيات النفسية- الرمزية التي نقرأ فيها، اليوم، سياقات االانكسار العربي في كل المجالات، العسكرية والتفاوضية.
وفي مقابل خروج عرفات- باراك من المفاوضات صفر الأيدي من أي تفاهم، خرج السادات- بيجن باتفاق، تجسد في التوقيع على معاهدة “كامب ديفيد”. لكن، ما جمع بيهما كان القتل بالنسبة للسادات من قبل أحد أفراد جيشه في استعراض عسكري مشهود، في حين كتبت الشهادة لعرفات، بعد أن تم تسميمه من قِبَل العدو الصهيوني في مبنى المقاطعة، الذي حوصر فيه على مرأى ومسمع من العالم “الحر” أجمع.
وباستثناء عنصرين من طاقم السادات المفاوض، الذين رفضا الاتفاقية، علينا أن نتوقع كل ما يمكن أن يكون قد حدث للسادات، مرفوقا بحاشيته، بعد أن تم إحكام القاعة خلفهم، جميعا، من قِبل بيجن وأعضاء الوفد المرافق له.
نفس المشهد يتكرر، مع الفارق الذي ألمحنا إليه: الإذعان بالنسبة للسادات بعد أن ساومه كارتر في مسألة قطع حبل الود الشخصي بينهما، إن تم الانسحاب من المفاوضات.. والصمود بالنسبة لعرفات، بالرغم من كل المعاناة التي تعرض إليها بسبب تعنته في المفاوضات، التي تمت برعاية الرئيس كلينتون شخصيا. ومما لا شك أن عرفات، وهو يهم بالدخول، قد استدعى ما حصل للسادات مع بيجن حين هَمّا بالدخول إلى قاعة المفاوضات.. لا شك في أنه قرأ الموقف بشكل جيد، سواء من حيث ملابساته النفسية أم الرمزية.
والآن، بعد خروج المفاوضات باتفاق كامب ديفيد، بالرغم من “كيد العرب الكائدين”، نستطيع تفسير سر تلك الضحكات المجلجلة للزعيم “السادات”، سواء بعد التوقيع، أو في أثناء زيارة الكيان الصهيوني، أو في حين استقبال بيجن بمصر.. نفس الضحكة وهو يسمع من بيجن في الكنسيت، في أجواء مُريبة، من بينها تأكيد أن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.. هي الضحكة، نفسها، وهو يسمع من بيجن بمصر الكنانة، في أجواء، أيضا، تخللتها إشارة إلى كون الأهرام معجزة اليهود في المحلة المصرية. لا تعليق لديه سوى تلك الضحكة الواسعة ملء فيه. وما أقواها بلاغة حين ينوب الضحك عن الكلام، وبخاصة حين تذكر العجوز كولدا مائير زعيمنا بما كان ينعتها به من عجز، فيرد عليها بالضحكة ذاتها.. وكأنها تقول له بشكل ضمني: من العاجز فينا اليوم؟
بعد ثلاثين سنة من التوقيع- الضحك، ما تزال الضحكة نفسُها مُجلجلة، وفي خلفيتها تنهض ضحكة أخرى لشخص كان في طور الاستعداد للضحك هو الآخر: ضحك مفتوح على البرية بدون حدود. فلنضحك جميعا، يا عرب.. لايَهمُّ إن كنا نضحك على أنفسنا، على تاريخنا، على آخر عرق مُقاوم فينا.. فالضحك، الضحك، حتى يتحرر آخر شبر من أرض العرب: من النهر إلى البحر.