من يوقف هذا العبث؟

بقلم: سعيد بوعيطة

عنوان هذه المادة مستمد من الجزء الأول من عنوان إحدى أهم روايات الروائي الراحل عبد الرحمن منيف “الآن…هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى” (الصادرة في طبعتها الثالثة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1992/ النسخة المتوفرة لدينا). فما علاقة الآن… هنا عند عبد الرحمن منيف وهو يتحدث عن شرق المتوسط الذي أفرد له رواية تحمل عنوان ”شرق المتوسط”، وبين الآن… هنا وجابها الله التي تؤشر على غرب المتوسط/ المغرب؟ وإذا كانت رواية عبد الرحمن منيف تمزق الصمت، وتعلن الفضيحة (فضيحة السجون والمعتقلات والمآسي التي عرفتها المنطقة/ شرق المتوسط)، من أجل التعرية. قصد بناء شهادة لن يستطيع الإنسان الاستغناء عنها إذا أراد أن يعرف واقع الأن (الزمن)… وهنا (المكان)، وإذا أراد أن يغير ما وقع، وما يقع في هذا الهنا (المكان)… وهذا الآن (الزمن) على حد تعبير المسرحي سعد الله ونوس (كلمة سعد الله ونوس على الغلاف الخلفي للرواية)، فإن ذلك يستوجب الفضح والكشف من أجل التجاوز/ العلاج، فهل هذا ما يستوجبه واقع حالنا في غرب المتوسط/ المغرب الذي عرف ويعرف إلى اليوم بعض الممارسات المرتبطة باستغلال سيارات مختلف الإدارات العمومية؟ وأن الداني والقاصي على علم بهذا الإستغلال غير القانوني لسيارات الإدارات العمومية بشكل سافر، وعلى عينيك أبن عدي كما يقول المثل المغربي.

فهل هذا يستوجب الكشف، من أجل التجاوز، على الرغم من أن العديد من المهتمين بالشأن الوطني قد أشاروا إلى خطورة هذه الممارسات غير القانونية منذ مدة.

هنا، وجابها الله

تعالت الأصوات بمختلف توجهاتها السياسية والفكرية، منذ فترة ليست بالقصيرة للتنديد والتحذير من خطورة الإستعمال غير القانوني لسيارات المؤسسات العمومية، على الرغم من أن قانون التنظيم الجماعي لسنة 1976، دعا إلى عدم استغلال سيارات الجماعات خارج الإقليم إلا للضرورة الخاصة، وكل ماله علاقة بالمصلحة العامة، واضح في هذا الشأن. خصوصا وأن أسطول السيارات الخاصة بالمؤسسات العمومية المغربية الذي وصل إلى ما يفوق 184 ألف سيارة، مقابل 72 ألف سيارة بالولايات المتحدة، و3400 سيارة باليابان، يتطلب أموالا طائلة (التنقل، الزيوت والمحروقات وأدوات الصيانة،…الخ). مما جعل هذا الأسطول الضخم، يستنزف ميزانيات المؤسسات في زمن يعرف العالم ومعه المغرب أزمات في مجال الطاقة وارتفاع أسعارها. لتصبح تكاليف سيارات الدولة بالمغرب الأضخم في العالم. فقد بلغ مجموع تأمينات سيارات المؤسسات العمومية والجماعات الترابية خلال سنة 2018 على سبيل المثال لا الحصر، حوالي 4.5 ملايير سنتيم، ليكلف مجموع تأمينات سيارات الدولة ومؤسساتها حوالي 11 مليار سنتيم، دون الحديث عن 54 مليار سنتيم لشراء الكازوال والزيوت و30 مليار سنتيم للصيانة. بالإضافة إلى بعض المسؤولين الذين يجمعون بين استفادتهم من سيارة الخدمة، وتعويضات التنقل التي تختلف حسب الوظيفة والمسؤولية.

وعلى الرغم من أن الحكومات المغربية المتعاقبة، تشدقت ولا تزال بوضع حد لهذا الريع وترشيد النفقات العمومية التي يمكن توظيفها في تنمية المنطقة، فإن كلام ليلها قد محاه نهارها، وعادت حليمة لعادتها القديمة من خلال استمرار العبث بسيارات المصالح التابعة للدولة والجماعات الترابية والغرف المهنية بدون حسيب ولا رقيب، في ظل غياب بوادر إرادة سياسية حقيقية للإصلاح، والتفعيل الواقعي للقانون المنظم لإستغلال هذه السيارات. وتجاوز سياسة الإستفادة والتنفع بالممتلكات العمومية والإبقاء على سياسة الفوضى والريع من طرف من يدعون التطوع لخدمة الصالح العام الوطني. حتى أصبحت سيارات المصالح يستغلها ويتمتع بها كل من هب ودب خارج أوقات العمل وخارج المجال الترابي المخصص لها، والغريب في الأمر أن بعض الجماعات الترابية الفقيرة جدا، والتي تعاني من الخصاص في البنية التحتية (الطرق، ندرة المياه الصالحة للشرب والكهرباء، والمدارس، والمستوصفات…الخ)، يتفنن رؤساؤها في إقتناء السيارات الرباعية الدفع، من أجل التنقل بها بكل حرية بين مختلف المدن المغربية وكأنها ملك لهم.

الآن… هنا وجابها الله مرة أخرى

إلى حدود الآن (اليوم/ خاصة ونحن في فصل الصيف)، وهنا (في مختلف مناطق المغرب)، يسارع مستغلوا سيارات المؤسسات العمومية إلى إهدار المال العام لقضاء مصالحهم الشخصية لا أقل ولا أكثر. فتجدهم يسخرون موارد الإدارة المادية والبشرية من هواتف و موظفين وميزانية حسب هواهم. يركنون سياراتهم الخاصة في مرآب المنازل أو الفيلات، ويتنقلون بسيارات الإدارة خارج أوقات العمل لقضاء مصالحهم الخاصة من قبيل الاستجمام في الشواطئ، والتزود بالسلع من الأسواق الكبرى، وقضاء ليالي السمر والسهر وما ارتبط بها. أما البعض الآخر، فيضعها رفقة السائق تحت أوامر زوجته (التي انتقلت بقدرة قادر من الحمارة إلى الطيارة) للذهاب بها إلى الحمام التركي (لأنها لم تعد تستسيغ الحمام الشعبي الذي بقي اليوم خاصا بنا نحن الفقراء)، وصالونات التجميل و الحلاقة، ونقل الأطفال من والى المدرسة الخصوصية. وإذا ما تبين للزوجة أن هذه السيارة لم تعد صالحة لها ولمقامها الإجتماعي الجديد، فإن المسؤول يسارع إلى اقتناء سيارة أخرى من الأموال العامة، ما دامت الحبة والبارود من دار القايد كما يشير القول المأثور.

أمام هذا الأمر المضحك والمبكي في الوقت نفسه، لا يكفي إصدار مذكرات ومنشورات تدعو إلى الاستغلال العقلاني والكف عن هذه التجاوزات التي تكبد ميزانية الإدارة خسائر فادحة هي في أمس الحاجة إليها لصرفها فيما يعود بالنفع العام على البلاد والعباد. لأننا الآن (الحاضر والمستقبل)، والهنا (المغرب)، وأمام هذا الاستغلال غير القانوني للسلطة، واستمرار سياسة إهدار المال العام، لا يجب أن تكتفي الجهات المعنية بإصدار مذكرات فقط، بل اتخاذ إجراأت عملية وملموسة خصوصا وأن البعض لا هم له سوى تبذير الميزانية في المسائل الشخصية. وإذا كانت جابها الله لا تزال تجوب وتصول بكل حرية وبدون حسيب ولا رقيب إلى حدود كتابة هذه الكلمات، فإن الأسئلة التي تطرح نفسها بقوة هي: إلى أين نسير؟ ومن أين نبدأ؟ لكن مهما يكن الجواب، فإن الأساسي يكمن في رثق هذا الثقب الذي أصبح أخطر من ثقب الأوزون، لكونه يستنزف الأموال العامة، ويزيد من تقوية الريع والتفقير. فهل يمكن رتف ما خربه المستهترون بالمسؤولية، أم اتسع الخرق على الراتق؟ لا نسعى هنا إلى أجوبة، بقدر ما نطرح الأسئلة التي تؤرق الوطن والمواطن على حد سواء.