بقلم: زكية لعروسي
ما أقسى اغتراب الروح في زمن لم يعد فيه للقريب ولا للغريب وجه، ولا حرارة الشوق والعناق للمسافر الذي طال رحيله . لقد احترق ما تبقى من وصايا الآباء، ودفن فتات الود المتبقي، لتدعونا أرواحنا المغتربة إلى الرحيل قبل أن تغادرنا الكلمات. إنه اغتراب فكري أعمق صدى من أي اغتراب ثقافي، سياسي، ديني، أو اجتماعي، يتسرب ببطء، فيؤدي إلى اغتراب كلي.
لقد ودّعت “أواصر القرابة” منذ أن أصبح لا جدوى من الإنسان الذي يعاني من شظف الحياة. والأمر ليس مجرد ظن أو ترجيح، بل هو اليقين. كانت عروق الصلة ما زالت نابضة في بداية هجرتي، إلا أنني سرعان ما شعرت بمعاناة ذاتية ونفسية وفكرية معقدة كشفت عن ضعفي في التكيف وعن عذابات الشوق والحنين إلى وطنٍ لم يعد يشبه نفسه. وطنٌ تبدّلت فيه أواصر القرابة كما عهدتها في طفولتي؛ خالية من الشكليات وتفيض بالود الحقيقي، وتجعل الوطن وطنا والإنسان إنسانا، وانا كما كنت.
أصبحت كأي مثقفٍ أو مثقفة التقيتهما في ديار المهجر، أحاول أن أربط بين الحكمة النظرية والحكمة العملية والأخلاقية التي اندثرت. اريد ان أصل بين الهوامل والخواطر والوطن والهجرة، معتنقة فلسفة مثالية لحفظ الإيخاء والود، لأجد نفسي تائهة في اغتراب وجودي بالمهجر واغتراب نفسي روحي في الوطن. تنافر داخلي خلق لديّ بركانًا من الرؤى الفلسفية والفكرية، لا هي متوازنة ولا مضطربة. اغتراب يشبهني ولا يشبه غيري؛ فيه من “الصعاليك” ومن المعري ومن المتنبي ومن عنترة ولوركا وسليم بركات.
هو صراع ذاتي بين المثقف ومحيطين لا يلائمانه. كيف يوفق بين ثقافتين “قد يتناطحان في شلا مسائل”. كمن يعتنق عقيدة التعدد لتتحول حياته لتراجيديا لا يحمد عقباها. من الصعب أن تبيع نفسك لثقافة المهجر من أجل البقاء فتغدو عبداً للآخر، بل وارخص في السوق مادام ان صفقة البيع تمت بموافقتك -كما لخص ذلك جان جاك روسو في كتابه (إيميل) وهو يتحدث عن الاغتراب- ؛ أو أن تبقى سجيناً لموروثات بيئتك وثقافتك التي قد تسلبك حريتك الفكرية واستقلالك الذاتي، وقدرتك على النقد البناء للمجتمع والتقاليد، مما يزيد من المعاناة والضغط النفسي، ويجعل من اغترابك الاجتماعي والوجودي داخل الوطن أمرًا حتميًا.
قد يعاب عليّ أن أتحدث عن الغربة في زمن تقلصت فيه المسافات بسبب تطور وسائل النقل. قد يتساءلون: عن أي غربة تكتب هذه؟
إنها غربتي كمثقفة “بهوية ثقافة كاملة، ونصف ثقافة غير مكتملة”، مثقفة منكمشة الإنتاج، في زمن أصبح فيه المثقف هو من يملك أرزما من الكتب ووظيفة. غربة واغتراب يتجذران في الفهم للحياة والموت، وفي فلسفة الخير والشر، وأواصر القرابة التي تلاشت لطبيعة العلاقات الاجتماعية التي غمرتها الأنانية والفردية.
منذ نأيت عن وطن من ماء وطين إلى أرض من بلاستيك، وقلبت حاسة الشم عندي، ولم تعد عندي قدرات زرقاء اليمامة، ومنذ علا وجهي الشحوب وغلبني الحزن، وأصبحت عليلة القلب، حائلة اللون من وساوس الغربة والفكر. فصمت لساني من الخيبة، وذبل وجهي، وقل تصنعي في القول والفعل والسؤال، غير متكلفة في عطاء الهدايا والدراهم، لم يعد لكلامي سلاسة الماء عند الأقرباء. فغابت ملح ورقة وجودي بين اهلي، ولم يعد أحد يهتم ببياني وأدب رسائلي لما لها من نكهة المنطق وغزارة النحو واللغة. الوقت يتطلب ثقافة أخرى، متشبعة بالانحراف والفوضى والنفاق، والتمزق والعبث الفكري والديني. وأنا أعيش “عيشة اللي مقلوبة عليها القفة” في زمن الجهل والتخلف. لا أفقا مفتوحا للعناق بيني وبين اوجه الصلصال الحائل و الحديد ” “المصدي””.
من دون قناع ووجه حائل، او مطلي بمساحيق الكذب والغش من سيفضي لي بكامنات نفسه ويسألني: كيف حالك؟ سؤال أصبح من الصعب على الأقرباء النطق به.
كلما زاد بي العمر، وازدادت خبرتي بأساليب التعامل مع القرابة، ازداد تمردي على النفاق، وأحببت العزلة أكثر. أصبحت أغدو بوجه يحير له القلم، وبرؤية انفصامية، بل انفصالية يتعلل لها الآخر، لأن فلسفتي للحياة تثير جدلاً بين أهل النفاق، حتى بين أدباء ثقافتي الذين ظنوا بي السوء لأنني من المهجر. فمنهم من يعتبر انني ارتمي على لغتي- هي لسان ابائي واجدادي– التي يحسبونها من ممتلكاتهم، ولا حق لي في مراوغة اساليبها، والاختراع في التأليف، وكل ما أكتب هو “تخربيق”، وأنني “سكة قديمة” لا أزركش كتاباتي ولا أغتصب لغتي بمناهج فيها من الجهل والظلام أكثر من شعاع الشمس للاهتداء في الطريق. وهناك فئة مما اسميهم “بحراس اللغة” يعيشون على رفع المبتدا والفاعل ونصبالمفعول والحال وجر المضاف إليه وإلإسم المجرور، وما عارفين من النحو إ” غي ما عارف الحلوف من سكينجبير”.. وهم اعلم بجهلهم، واجهل لما أحاول فعله وهو القبض على جمر الإبداع، والنفخ في صلصال الكتب القديمة، لأروي من فيضها ما أكتب، وأكون “أنا” بين المهجر والوطن.
الم اقل لكم انني خليط من اغترابين أعطى ذاتاً فكرية معذبة بين عادات بالية، وأساليب الكذب والنفاق الملتصق بـ”بني آدم ديالنا” وظلم الجهالة، وبين أرض مهجر فيها الجحيم والشقاء والشفاء، لأبقى كالمعلقة بأجنحة متكسرة، لا رجوع إلى الوراء ولا تقدم إلى الأمام. جاثية في مكان أطيل النظر ك“حية ذات الصفا” إلى “صاهل وشاحج” واحاول ان ارتفع بحكمة ابي العشاء في ” لزومياته” ساعية إلى تحقيق بنية فكرية موضوعية اقرب إلى الصحة وإعطاء كل ذي حق حقه، واحاول الانفتاح على الآخر بالمهجر روحا كلما انغلق جسدي، وتوترت اعصابي، دون بيع نفسي وثوابتي.. قناعة حمتني من الانفصام والشذوذ في الاغتراب، وابعدتني عما سقط فيه ابو العلاء المعري وهو يحاول ان يغير عالما غمرته الجهالة وثقل بالشقاء والمعاناة بالانتقال إلى الآخرة عبر عنه في “رسالة الغفران” و” رسالة الملائكة”.. رسائل ليس لاحد ولا لي القدرة ولا الحرية الفكرية، والشجاعه لللإتيان بمثلها، وإن سولت لي نفسي سيحين قطاف رأسي.
ومن ثم فإن غربتي المهجر ارست في نفسي اغترابا اختلط فيه ما هو ثابت وما هو متحول، وما احب وما ارفض، ليتعمق بي حب التراث، تاركة ما لا يلزم، وباحثة عن منابيع يتفجر منها النفيس من القول والحكمة، والسديد من الرأي ليكون لي مرآة ناصعة لما قطف من ثمار الفلسفة والصوفية وثقافة فكر ناضج، وفيه من الخصوبة اكثر من الصلصال والبلاستيك. فقد وجدت وجها قريبا آخر لا يتبدل ولا يحول، وعناقا حارا بين أحضان ” الإمتاع والمؤانسة” و “رسالة الملائكة” و ” و” رسالة الغفران” و “منطق الطير” و ” رياض العارفين” و ” الحيوان” و” البصائر والذخائر” و ” الهوامل والشوامل” و” اسرار النجوم” و رسائل الجاحظ ” ، فلم احس بالانغلاق على ذاتي مستشعرة اغترابا واعي الروافد وباجنحة تسمح لي بالرحيل والعودة، والذهاب والإياب من دون انكسار، او الغرق في لجة الظلام، الشيء الذي أغناني على النظر في وجوه حائلة من نوع “عندي زوج اخواتات والصغيرة ربيعة، السن تضحك للسن والقلب فيه الخديعة”، فما تبقى من وطني واقع قرابة كل وجوهها حائلة عدا الزوجة او الزوج الصالحين المخلصين، ثم وجه الام، ثم الام، ثم وجه الاب وإن غاب ورحل…
حاولت أن استقصي الأمر بالنسبة لمن هاجروا مثلي تاركين المياه والطين والرمل وعروق القرابة بالوطن، فلم احتج إلى الكتب القديمة ولا الفلاسفة، بل رحت
إلى واقع وجوه في أحد أسواق الخضر الباريسية، لأرى وجوهاً إذا رأيتها لا تعرفها. غربت شمس جمالها، واشتملت عليها الاشجان، وتحكم فيها الهجر من كل جانب، واستغرقتها تجاعيد الحسرات، وشتتت ملامحها ،ورأيت أجسادا اكتنفها التعب من كل جانب، وأتت عليها أحكام البعد، والجفاء، ونوائب الأقدار، ليزيد هذا من اغترابي وحزني،لم تسعفني الكلمات لوصف وجوه حائلة، “وصفها يخفى دونه القلم، ويفنى من ورائه القرطاس، ويشل عن بجسه اللفظ” كما يقول مولانا ابو حيان التوحيدي. لاقول لإحدى النساء:”هل مشيتي للمغرب هذه السنة؟
” لا يا بنتي، ما بقاوا اهل ما بقاوا علاقات.. الدنيا خذات كل شي والخارج مشا عندهم (تقصد العولمة).. واشنو يديروا بنا حنا!؟” لتضيف وهي تتنهد
” وا شكون يسول فيك ولا يعتبرك لا كحة ولا ارواح” و”شكون بقا يراعي للدم؟”
عبارات اسمعها من نساء ورجال المهجر أسكتتني وقلت في صمت : “يا إلهي من يسال عن من؟ فمن يسأل هل الغريب الذي لا إسم له بين الاهل فيذكر، ولا مال له فيُعذَر، ولا مكانة له فيشهر؟ ام الغريب الذي لم يغادر ولم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولكنه صار غريبا في وطنه، وبعيدا في محل قربه؟ او ذاك الذي ذكر الحق فهجر، وإذا أسند كذب، ولم يعد يحرق فؤاده الأسى والاسف، وإذا سئل لم يعط، وإن نودي لم يجب، وإذا لقي ورأى غيب وجهه، ولم يَدُر حوله؟
رحمتنا لكل هؤلاء، ولكل أواصر القرابة التي تفككت. الجميع أصبح غريباً دون أن يغادر، واشتد الضرر وحالت الوجوه. سكت الكل عن الكلام المباح، ولم يعد هناك وقت لاي كان ان يكتب أو يسأل أو يصل. لنبقى جميعاً حبيسي الحزن والفرقة.
رحمتنا لكل هؤلاء، ولأواصر القرابة ، فالكل اصبح غريبا دون ان يطول سفره، والكل عظم عناؤه ، واشتد ضرره وحال وجهه. والجميع سكت عن الكلام المباح، لنصبح كلنا حرقة، والكثير منا فرقة. ليالينا اسف، ونهاراتنا لهف، وشربنا شجن، واكلنا حزن، وأراؤنا في الآخرين ظن، واسرارنا علن بسبب النيت والفيس والتيكتوك والانستغرام “ما بقا ما يتستر ولا يْتْسَرْ”، اماكن فيها من محن الفتن.. والحالات النفسية والعقلية ما يعادل اليابسة والبحر. فمن يسأل او يصل إذن والوجوه والنفوس تشابهت” ما تفرقش بيناتها” ومن يمر للتحية والسلام إذا امتار، والكل” غارق في همو” في زمن “ما سلكش الواحد مع راسو”.. زمن تنافر الذات مع الذات والغير والمجتمع لنتيه عن طبيعتنا الجوهرية، ونغترب ونُضيِّع شخصيتنا الاولى” – كما قال هيغل- ومعها القرطاس والقلم وادبيات اواصر القرابة وما يتبعها من عبارات الشوق والحنين..
فما علينا إلا أن نردد مع أبي حيان التوحيدي: “اللهم إنا قد أصبحنا غرباء بين خلقك، فآنسنا في فنائك، اللهم إنا أمسينا مهجورين عند أهالينا، فَصِلنا بحبائك”.