أنا أخرب، إذن أنا موجود

بقلم: سعيد بوعيطة

 

قديما، كان الإنسان يخرب ما يصنعه الآخر(العدو)، بعد هجومه وصراعه العنيف معه، يدمر شيئًا صنعه البلد الآخر. لكنه في هذه الحالة، وعلى الرغم من عدوانيته المرفوضة، لا يضر باقتصاد بلده، وعمرانه وممتلكاته الخاصة والعامة. لكن اليوم، يدمر الإنسان شيئًا يخص مجتمعه. لأن الخسائر تعود إليه من حيث يدري ولا يدري. لهذا، فإن ظاهرة التخريب المرتبطة كغيرها من الظواهر بالانحرافات السلوكية/ الاجتماعية، النفسية، …الخ، تؤدي إلى العديد من النتائج الخفية والمخيفة في الوقت نفسه. وإذا كانت المعادلة التي بني عليها عنوان هذه المادة، تربط بين”الأنا” الذات من حيث الفعل/ المظهر، و تحقيق الوجود الواقعي منه والإفتراضي (تحقيق الكيونونة الممكنة سواء بالفعل أو بالقوة)، فإنها تحضر بقوة في مجتمعنا اليوم من خلال مجموعة من الأشكال والمظاهر. تتشظى لتعطينا تصنيفات عدة، تحكمها عوامل نفسية واجتماعية. نذكر من بينها: (أنا أملك حساب فيسبوكي، إذن أنا موجود، وأنا أملك سيارة فارهة رباعية الدفع، إذن أنا موجود، وأنا قاطع طريق (أقوم بالكريساج)، إذن أنا موجود، وأنا أملك السلطة، إذن أنا موجود، وأنا أقود سيارتي أو دراجتي النارية بشكل جنوني، إذن أنا موجود، وأنا أسلفي، إذن أنا موجود (عنوان كتاب الباحثة إلزا كودار)، وهكذا دواليك، بشكل لا يعد ولا يحصى.

لكن تعد معادلة أنا أخرب، إذن أنا موجود من أخطر هذه المعادلات، باعتبارها تندرج ضمن الإضرار بالنظام العام. إذ يدمر التخريب الحياة العامة الحضرية، و يزداد معها مستوى العدوان والعنف في المدن. بحيث لا يؤثر هذا السلوك على الأنشطة التجارية وأماكن الترفيه، وكذا الفضاأت والممتلكات العامة الثابتة منها والمتحركة فقط، بل يفاقم أيضا مشاعر الخوف والاضطراب لدى المواطن. فهل نحن قوم جبلنا على التخريب أم جاء ذلك نتيجة عوامل أخرى مترابطة ومتراكمة؟

أنا أخرب، إذن أنا موجود

التخريب ظاهرة عابرة للجغرافيات، وللمجتمعات المعاصرة، سواء كانت دولا متقدمة وصناعية أو دولا نامية ومتخلفة. أما على مستوى علم الاجتماع، فيحدد التخريب باعتباره تدميرا طوعيا متكررا ومستمرا للممتلكات العامة. كما حدده جانب آخر من علم الإجتماع باعتباره نوعا من المزاج المهووس الذي يتجاوز الجنس والعرق والجنسية والثقافة والدين والعمر والمستوى التعليمي، ومستوى الأسرة والمجتمع. لذا، فإنه يوجد في مختلف بلدان العالم. وفي المنحى السوسيولوجي نفسه، ربطه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، بحالة القهر التي يعيشها الإنسان. لهذا، اعتبره بورديو بمثابة عنف رمزي. يتمّ باتفاق خفي بين مَن يُمارِسون هذا النوع من العُنف ومَن يُمارَس عليهم، عبر علاقات الاتصال التي تجمعهم بأساليبها المختلفة. أما صاحب كتاب سيكولوجية الإنسان المقهور مصطفى حجازي، فيرى أن القهر يُنتج إنسانا مختل التوازن، وأن هذا التوازن الوجودي، يتعادل من خلال جانبين أساسيين. يتعلق جانبه الأول بمرحلة التمرد تلك، قصد تغيير الأوضاع من الخارج، لتتلاءم مع حاجات المرء الحيوية وتُحقِّق له ذاته، باعتباره الحل الأكثر فاعلية والأضمن على المدى البعيد، غير أنه ليس ممكنا في البداية. مما يقوده إلى البحث عن آليات دفاعية، تهدف للتأقلم لا التغيير، وتكفل تحقيق الذات بشكل ظاهري. إلا أن سلبيتها تُعيد التوتر إلى الارتفاع مرة أخرى. مما يجعل المرحلة الأخيرة، ضرورة بحلولها الخارجية.

لهذا، يحاول هذا الإنسان المقهور (حسب مصطفى حجازي) الانتقام من خلال أساليب تحمل أشكالا عدوانية عدة. تتفاوت نسبها من شخص لآخر. لكن على الرغم من تعدد هذه الأسباب، فإنها ترتبط بشكل أو بآخر بالجانب الإجتماعي والنفسي للمخرب. حيث يعيش هذا الأخير حالة من التماهي مع المتسلط باعتبارها أثرا مختلفا ومخيفا للقهر الاجتماعي. إذ يتماهى المقهور مع أحكام المتسلط ليتشبّه بعدوانيته ونمط حياته، فيكون التماهي حينها أكبر من مجرد محاكاة، ويصبح عملية لا واعية. تفوق الإرادة وتتلخّص في تمثُّل وجود الآخر كليا أو جزئيا. فيتخذ المقهور ماهية المتسلط، وهويته، وإيماأته، وتعابيره، وأدواته. ليكتسب وهم الاعتبار الذاتي، ويصرف العدوانية إلى الخارج. لهذا، يفرغ التوتر والغليان الداخلي من خلال تصريفة إلى الخارج. فيبرز هذا التفريغ النفسي على شكل عنف تدميري. يتخذ (حسب المدمر) معنى التغيير الفعال، ويعتبره السلاح الأخير لإعادة الاعتبار للذات (إجتماعيا ونفسيا). كما يصير هذا العنف لغة التخاطب الوحيدة الممكنة مع الآخرين/ المجتمع، والوسيلة الأكثر شيوعًا لتجنب العدوانية التي يشعر بها الإنسان المقهور نحو ذاته بسبب فشله. هكذا، يصبح الإنسان المدمر، بمثابة تلك القنبلة الموقوتة القابلة للإنفجار في كل وقت وحين. فهل الإنسان العربي/ المغربي مسكون بهاجس التخريب؟ وإذا افترضنا جدلا أننا نحن العرب أشد تعقيدا على المستوى النفسي، وأشد تأزما على المستوى الاجتماعي، ناهيك عن باقي المستويات الأخرى، فهل يمكن القول إننا أفضل أمة في التخريب؟

هل نحن أفضل أمة في التخريب؟

يقول الكاتب الياباني نوبواكي نوتوهارا، في كتابه (العرب – وجهة نظر يابانية) (منشورات الجمل بألمانيا، 2010): ”لقد فكّرتُّ طويلًا في ظاهرة تخريب الممتلكات العامة، وفهمت أن المواطن العربي يقرن بين الأملاك العامة والسلطة، وهو نفسيًا (في لاوعيهِ على الأقل) ينتقم سلبيًا من السلطة القمعية، فيُدمر بانتقامه وطنه ومجتمعه بدلًا من أن يدمّر السلطة نفسها”. ينطبق قول نوتوهارا على مظاهر التخريب التي نعيشها يوميا في وطننا، والتي تلحق أضرارًا جسيمة بالمجتمع ومختلف المصالح والفضاأت العمومية. ففي كل عام، يتم إنفاق ميزانيات عامة ضخمة على إصلاح الأشياء والمعدات (النقل العمومي، الحدائق، الإنارة العمومية، إشارات المرور، …الخ) التي تتضرر جراء عمليات التخريب. حيث يتوجه هذا الأخير بشكل أساسي إلى شركات النقل وقطاع التعليم والأماكن الرياضية والمنتزهات، وما شابه ذلك. حيث يدمر المخرب هذه الممتلكات التي هي ملك لكل المواطنين، وليست لغيرهم. شأن الوطن الذي هو ملك لهم جميعا. فمن يخرب الممتلكات العامة، فكأنه يخرب الوطن. لهذا، فإن عبارة ”أنا أخرب، إذن أنا موجود، تصبج أنت مخرب، إذن أنت غير موجود. أما معادلها الموضوعي بعبارة إليوت، فهو: ”أنا أبني وطني، إذن أنا موجود. لهذا، فعلى هذه الأمة (كما أشار الشاعر مظفر النواب)، أن تأخذ درسا من التخريب. فعلى الرغم من اختلاف سياقات القول بيننا وبين مظفر النواب، فالمغزى واحد.