حين أكد غاليلي أن الأرض ليست مركز الكون كما كانت البشرية تعتقد عبر آلاف الأعوام، وإنما هي كوكب صغير يدور حول الشمس، ذهب بعض خصومه إلى الكنيسة الكاثوليكية ليشتكوه إليها بتهمة الإتيان بما يتنافى مع ما جاء في الكتاب المقدس، فدعي إلى روما وحذرته الكنيسة من العودة إلى تلك الأفكار على الرغم من صحتها، فاختار الصمت لمدة 16 عاما، قبل أن ينشر معلومات اكتشافه في كتاب، مؤكدا أن ذلك لا يتعارض مع الكنيسة، وكانت النتيجة هذه المرة أن دعته الكنيسة إلى التصريح علانية بأن الأرض ثابتة لا تدور، وأنها لا تتحرك أبدا، وفي العام 1632، خضع لمحكمة التفتيش بتهمة الهرطقة، فحكم عليه بالسجن ثم بالإقامة الجبرية في بيته حتى توفي في يناير1642.
رحل غاليلي وبقيت الأرض تدور وتأكد العالم من أنها تدور، وجاءت الأقمار الاصطناعية وصورتها وهي كرة تدور، ومع ذلك ما يزال بيننا من يكذّب كل النظريات العلمية، والحقائق التاريخية، على الرغم من أن الكنيسة قدمت اعتذارا لغاليلي عام 1983، وأعاد له الفاتيكان في نوفمبر 1992 الاعتبار رسميا، و أقام له تمثالا.
تحيل قصة غاليلي على مسألتين أساسيتين. ترتبط الأولى بكون الكنيسة عصرئذ، تعرف صحة آراء وتصورات غاليلي بخصوص دوران الأرض، لكنها تتعامى عن هذه الحقيقة، من أجل تضليل الناس بشتى الوسائل. أما الثانية، فتكمن في كون العلم والزمن يكشفان عن حقائق الأمور و القضايا. وهو ما ينطبق على حال بعض البلدان القريبة والبعيدة منها جغرافيا بخصوص قضيتنا الوطنية. وإذا كان غاليلي قد تشبث بموقفه، ولم يتنازل عنه ولو طارت معزة كما يقال، فإننا نقول على غرار ما قاله غاليلي ”ومع ذلك فهي مغربية. وإذا كان العلم قد كشف حقيقة ما ذهب إليه غاليلي، فإن العديد من الحقائق التاريخية والواقعية، قد كشفت حقيقة قضيتنا الوطنية. هذه الحقائق جعلت (ولا تزال) العديد من الدول تدير رأسها ووعيها نحوهذا المنطق الواقعي والتاريخي على السواء، لتعلن الحقيقة، وتجاوزت كون رأسها/ موقفها عبارة عن كدية/ثابتة. لأن الذي لا يحرك رأسه نحو الحقيقة الساطعة، سيبقى عبارة عن كدية، إلى أن تجرفه السيول أو تذروه الرياح. لأن”الراس اللي ما يدور كدية.
الراس اللي ما يدور كدية
ليست الأرض وحدها هي التي تدور كما أكد غاليلي رحمه الله، بل كل شيء في الكون يدور. تدور الأيام، وتدور الدوائر، وتدور المآقي في المحاجر حتى لا يفوتها شيء، وتدور الرؤوس من نشوة الكؤوس، ويدور رأس البومة الحكيمة، وتدور الكلمات لتنتج أنواع الخطابات، وتدور المباني لتتعدد المعاني والدلالات، وتدور المواقف والأفكار، مثلما يدور الليل والنهار، أو مثلما يدور اليمين واليسار ليغير مواقعه ثم مواقفه (السياسية طبعا)، أما دوران الزمان، فيعد أقسى الدوران، حتى قال المغاربة (ويل لمن دار عليه الزمان)، أما الشاعر أبو البقاء الرندي فمنح دوران الزمان بعدا وجوديا، فقال: دار الزمان على دارا وقاتله وأم كسرى فما آواه إيوان
ولما كان أجدادنا على علم تام بأهمية الزمان وخطورة دورانه في الوقت نفسه، صاغوا المثل الشعبي المتداول ”الراس اللي ما يدور كدية. ليس من باب وعيهم بخطورة دوران الزمن وسلطته فحسب، بل من أجل أن يخطوا لأنفسهم ولمن سيأتي من بعدهم من سلالتهم، منهاجا مرنا للتعامل الذكي والواقعي، بل الحكيم مع مختلف الأحداث والوقائع والقضايا، كلما اعتراها تغيير يستدعي ويستلزم مراجعة المواقف والرؤى، دون أن يعني ذلك انخراطا في التنظير لإنتهازية معينة. بل لأن الشمس لا تغطى بالغربال كما يقال. لهذا، علمونا أن نجعل رؤوسنا تدور، وإن بصعوبة في مواقف ومحطات ومع من يستحقون ذلك. لندرك لاحقا بشكل واضح، أن إدارة الرأس، حركة فيزيولوجية، وتدبير ديبلوماسي بالمعنى المعاصر للكلمة، ومرونة وليونة في المواقف، وليست انهزاما ولا ذلا كما قد يفهم البعض. بل هي رحمة يلقيها الله سبحانه وتعالى في قلوب من يشاء من خلقه ليكتشف الحقيقة. لأن الدوران (ومنه دوران الرؤوس) يكشف حقائق الأمور وأهميتها. ومادام الشيء بالشيء يذكر، فإن العديد من الدول العربية منها والغربية التي لم ترض لنفسها إبقاء رأسها كدية ثابتة على الدوام، قد حركت هذا الرأس، لتتجاوز حالة الكدية ودارت دورة كاملة في اتجاه الحق الساطع والحقيقة التاريخية بخصوص قضيتنا الوطنية. دار الرأس الأمريكي، ودار الرأس الألماني، ودار الرأس الإسباني، وأخيرا دار الرأس الفرنسي، وستدور كذلك رؤوس أخرى في اتجاه الحقيقة.
أما الرأس الذي لا يدور، فسيبقى كدية. وإذا كان هذا الراس الثابت/ الكدية، يرى قضيتنا الوطنية قضية عادية، فإننا لا نراها كذلك. لأن أمرها، أصبح ينطبق عليه الشطر الثاني من البيت الشعري للإمام الشافعي (فصار يحمل بين الجفن والحدق (الديوان: ص: 89).