رسائل زكية لعروسي من باريس… من القرابة والرحم إلى جزاعة

بقلم: زكية لعروسي*

للقرابة في اللغة معنيان:
1. القرب في النسب، فيقال: فلان من ذوي قرابتي وذو قرابة مني، أي نسب.
2. القرب في المكان، يقال: فلان قرب فلان، أي دنا.

وقد استخدم القرآن الكريم لفظ القرابة بمعنى القرب في النسب، مما جعلها علاقة إيجابية في بناء الأمة، إذ تتعلق بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع بعيدًا عن الهدم. قال تعالى: “وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (الأنفال: 63).

وقد استخدم فقهاؤنا مصطلحات عدة للتعبير عن معاني القرابة مثل الرحم: “اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ” (الرعد: 8)، و”وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ” (الأحزاب: 6). وكذلك النسب: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا” (الفرقان: 54)، بالإضافة إلى العصبة، والعاقلة. لكن القرابة الأصل هي قرابة النسب، وتنقسم إلى نوعين: قرابة الولادة وقرابة غير الولادة.

ما يشغلنا في هذا العرض هو قرابة الرحم، التي كان العرب قديمًا يستعطفون بها غيرهم، فيقولون: “أسألك بالله والرحم”. وفي تفسير الرازي (ص 375) ورد أن المشركين كانوا يكتبون إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) “نناشدك الله والرحم”. وقد اعتبر ديننا رعاية القرابة من مكارم الأخلاق: “قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ” (الشورى: 23).

فأين نحن من هذه القرابة؟ هل قطعنا الروابط التي تجمعنا؟ كيف ارتدينا أثواب الخيانة وغمرنا الشتات؟ لماذا خنا العهد والمواثيق وركبنا موجة الجهل، حتى أصبحت أرواحنا متحجرة وأعيننا مغشاة بالضباب؟ انهزمت نفسي أمام هذه التساؤلات، وغربة زادت احتراق ما تبقى من صلة الرحم.

العجيب أن التعامل مع الأرحام أصبح أصعب من أي وقت مضى، ولم تنج هذه العلاقات من الشر، فقطعت الكثير من الأسر حبال الوصل، متناسين أن لا أحد من البشر للخلود.

لكم كان القلب ينبض وأنا أشد الرحال إلى بلدي وأهلي، ولكن لا أعرف ما الذي تغير؟! أصبحت جزاعة بأرض الهجر، وأصبح الحنين إلى سهل وجبل بلدي أكثر من الحنين للأخوة والأهل. وكأن كل طرق الجو والبحر والبر تحولت إلى حجارة أحرقتها نار الفتن والأحقاد والمنافسة، ليصبح الود غائبًا، والتواصل عند الفواجع فقط.

فأينما وليت وجهي أجد الناس يشتكون من لؤم الأهل وتدهور العلاقات. كلما راودني الحنين وهاتفت أحد إخوتي، يكون الجواب بعد كلمات سريعة النطق: “الو، ياكي لا باس؟” وبعدها صمت مرعب… وكأن مهاتفة الأقارب أصبحت شيئًا مزعجًا للغاية وتصريح بأعلى صوت: “لماذا تهاتفونني؟”، أما الأعياد، فلم تعد لها قداستها المعهودة، فالهاتف لا يرن. والغريب في الأمر كلما توغلت في الحديث مع صديقاتي وأصدقائي من الطبقة المثقفة، تكبر قناعتي بالفجوة وانعدام القرابة بمفهومنا الثقافي العربي، كما عرفناها في أزمنة ليست ببعيدة.

هذي فاطمة حاصلة على دكتوراه في الأدب المقارن تشتكي من قلة طيبة أقاربها وزوجات الإخوة. وهذه شاعرة من أسرة عريقة تحكي عن مساومة الأهل لإطعامها عند حلولها ضيفة بالمغرب. أما الأصدقاء من الرجال، فيصرحون أن الأهل لا يرون فيهم إلا بقرة حلوب، وهم يفضلون زيارة المغرب دون إخبار عائلاتهم والاستمتاع برفقة الأصدقاء وطبيعة بلدهم دون تجريح أو سماع تفاهات النقاشات: “شوفي اختي، ما كاين لا أهل ولا أحباب، كاين جيبك فقط وحتى واحد ما يبغي تمشي عندو.. ما في ما نسمع كبت ديال ناس كيتكلمو على الياجور والسيما والمشتريات وما أنجزوا من سفريات” هذا ما يصل إلى مسامعي من أغلبية أصدقائي.

أما عن النساء اللواتي ألتقي بهن بسوق الخضر والفواكه، فقد أصبحن واعيات بأن لا الهدايا ولا العطايا تعمر بيوتهن ولا قلوب أهلهن برائحة الريحان والمسك والعنبر الأسري، بل أصبح اللقاء ضربًا من التجاهل والازدراء والاحتقار تجاههن وتجاه أولادهن. وجوه الأهل دون لون أو طعم يوم اللقاء، متجهمة لا تعرف ضحكًا ولا مجاملة.

كل هذا أفقدنا الصواب وأبعدنا عن قبلة بلدنا الحبيب، لنضع بجانب أرحام آبائنا أشباح أقرباء في صناديق محكمة الإقفال. لا سبيل إلى وصل قرابة دم أو نسب نُحِرتْ وقُدَّتْ أوصالها وفرقت أرحامها في زمن يخون الأخ أخته وأمه، ويضُرب عنق العشرة والملح غير آبه أو معتذر .

*شاعرة مغربية مقيمة بباريس