بقلم: زكية لعروسي*
كانت الترجمة منذ العصور القديمة جسرًا مهمًا للتواصل بين الحضارات والثقافات المختلفة. يعود تاريخ بذور الترجمة إلى عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، حيث كان يطلب من أصحابه تعلم اللغات غير العربية مثل العبرية والقبطية والحبشية والفارسية للتواصل مع شعوب تلك اللغات، نظراً لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يأمن ترجمة أقوالهم. قدوم عناصر غير ناطقة بالعربية إلى البلاد العربية، بالإضافة إلى تعريب الدواوين في الدولة الإسلامية أثناء القرن الأول الهجري، واختلاف وتعدد الألسن، كلها عوامل ساهمت في وعي العامة بضرورة الاهتمام بالترجمة.
الترجمة في العصر العباسي
نالت الترجمة حظوة عظيمة في العصر العباسي، خاصة مع الخليفة المنصور ومن بعده هارون الرشيد، لتصل إلى أوجها مع الخليفة المأمون. تأسست في عهده مدرسة شهيرة وهي “دار الحكمة” في بغداد، وبرزت شخصيات كبيرة في مجالات العلم والفلسفة مثل الخوارزمي والكندي والجاحظ. لم يكن بروز هؤلاء العلماء ممكنًا لولا وجود متخصصين كبار في فن الترجمة، مما ساعد على انتشار الثقافة والمعرفة.
تأملات الجاحظ حول الترجمة
الجاحظ يعد من أوائل الرواد والمنظرين العرب لقواعد فن الترجمة، حيث حدد شروط الترجمة والمترجم في كتابه “الحيوان”. هذه الشروط لا تتنافى مع معايير الترجمة الحديثة. لقد كان الجاحظ مدمناً على قراءة الترجمات المختلفة، سواء الجيدة أو الرديئة. فما هي إذن البنود التي طرحها الجاحظ لمادة الترجمة؟
. طغيان لغة على أخرى عند المترجم
– يرى الجاحظ أنه إذا كان المترجم يملك لغتين، فإن واحدة منهما ستجور على الأخرى: “ومتى وجدناه أيضًا قد تكلّم بلسانين، علمنا أنّه قد أدخل الضيم عليهما، لأنّ كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها”.
2. وجوب التمكن من لغة ومذهب المُترجَم منه
– يشدد الجاحظ على ضرورة تمكن المترجم من لغة النص الأصلي واللغة المنقول إليها، بحيث يكون أعلم الناس باللغتين، فيقول الجاحظ في كتاب الحيوان “لا بدّ للتّرجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، و ينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة و المنقول إليها، حتّى يكون فيهما سواء و غاية.”
3. ما هو ديني لا يُترجم
– يعتقد الجاحظ أن المترجم الذي ينقل كتب الدين يجب أن يكون من مذهب أصحاب الفكرة الدينية التي يحاول نقلها، لكي لا تحدث أخطاء في تأويل النصوص الدينية، بمعنى انه لا يسعى إلى:” تصحيح المعاني في الطبائع” وان “يكون معقودا بالتوحيد، ويتكلم في وجوه الاخبار واحتمالاتها، ويكون ذلك متضمنا بما يجوز على الله مما لا يجوز، وبما يجوز على الناس مما لا يجوز”
لم يأت الجاحظ بهذه الفكرة اعتباطا، فالمترجم للنص الديني يجب أن يلازم التوحيد كشرط من شروط ثقافته ليكون اقدر على تفسير المعاني في الطبائع، ويذهب الجاحظ إلى أن” اليهود لو أخذوا القرآن فترجموه بالعبرانية لأخرجوه من معانيه، ولحولوه عن وجوههم…. فما ظنك بهم إذا ترجموا (فلما آسفونا انتقلنا منهم…)”
ويواصل الجاحظ الحديث عن صعوبة ترجمة النص الديني بذكر خطأ المترجمين في ثلاث مواضيع:
* “ومتى لم يعرف ذلك المترجم أخطأ في تأويل كلام الدين”
* “والخطأ في الدين أضر من الخطأ في الرياضة والصناعة”
* “وإذا كان المترجم الذي قد ترجم لا يكمل لذلك، أخطأ على قدر نقصانه من الكمال”
الخطأ إذن بالنسبة للمترجم من جهله وسوء فهمه للنصوص المنقولة، وعدم التمكن من اللغة، مما يحدث ضررا بالغا في التبليغ. فالترجمة لا تحدث ولا تتم عن طريق ترجمة ماهو حرفي بل إيصال معنى النص الأصلي.
4. استحالة ترجمة الشعر العربي
يرى الجاحظ أن الشعر العربي يعبر عن الروح والحكمة العربية، ويؤكد على صعوبة ترجمته إلى لغات اخرى حيث يفقد الشعر جماله ووزنه عند الترجمة. هذا البند -في نظري- من أهم البنود في نظرية الترجمة عند الجاحظ ومن بين الموضوعات التي لا زالت مطروحة للمناقشة، فقي كتابه الحيوان يقول الجاحظ: «وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب، وعلى من تكلَّم بلسان العرب. والشعر لا يُستطاع أن يترجَم، ولا يجوز عليه النقل؛ ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه، وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب، لا كالكلامِ المنثور. والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر .»
الحقيقة أنه ليس العرب وحدهم مطبوعين بالشعر. وفضيلة صناعته، والإبداع فيه كما ذكر الجاحظ ليست مقتصرة عليهم، بل إن الأمم الأخرى كاليونانيين والسومريين والصينيين والمصريين والفرس والهنود أبدعوا في هذا الفن من القول والاوزان قبل العرب.
ومع ذلك فإننا نقول ان الجاحظ كان له جانب من الصحة لكون جمالية القصيدة منوطة بلغتها الأصلية، فكلما ترجمت إلى لسان غير الذي نظمت فيه فهي تفتقر إلى حضن لغوي مؤهل لاحتضانها، لتمسي بعصا مشوهة توحي بسير رديء ومعوق لغويا ووزنا، وتخرج من سمة البيان والبديع إلى سمة التيه والهذيان ، وهذا بالرغم من أهمية الترجمة في تلاقح الثقافات وتواصل الشعوب..
فالجاحظ يرى أن ترجمة الشعر توجب نقل مضمون النص ومعناه بأمانة مع الإحاطة بالجانب الشكلي وتمكن صاحب الترجمة من ” أبنية الكلام وعادات القوم”، فالعناية بالشكل اللغوي شرط مهم لاستغراق المعاني المطروحة في الطريق والإبانة عن المادة المترجَمة بلغة سليمة وإيصالها من دون غموض أو لبس.
كان الجاحظ من مناصري ترجمة المضمون التي كان يمثلها المترجمين بن قرة وابن المقفع بحكم ما ترجمت معانيه لا يحتاج إلى تصحيح، عكس الترجمة اللفظية والتي كان يمثلها ابن بطريق وابن ناعمة.
الترجمة في العصر الحديث
تواصل الترجمة طريقها اليوم عبر الكمبيوتر، الذي يعتبره البعض مضرًا بالنص الأصلي. إلا أن الترجمة باستخدام التكنولوجيا الحديثة يمكن أن تكون دقيقة وصحيحة، بشرط مراعاة المعاني وعدم تشويه النص، وقد يعتبر الكثير منا هذه الوسيلة مشينة ، فإننا نقول لا عيب في ترجمة تساير التطور، وهي لا تتنافى مع مدرسة الترجمة اللفظية على عهد الجاحظ، بشرط تثقيفها بمراعاة المعاني والحرص على عدم الارتماء على أملاك الآخرين.
واخير فالترجمة كما عرفها الجاحظ لم تكن يوما هي اللسان المكتوب به ولا نصا ادبيا بل وسيلة إيصال لمعانى اقلام من ثقافات والسن اخرى. غير ان السؤال الذي يطرح نفسه : لماذا نعتبر الترجمة -سواء منها التي اعتمدت على المضمون أو منها اللفظية- مصدرا ثقافيا ساعد ويساعد في السير على طريق النهصة والعلم والحضارة بينما نحط من قيمة الكم الهائل من المعلومات التي تساعد على ترجمتها أجهزة الكمبيوتر لإيصال المعلومة ، علما ان هذا النوع من الترجمة يساعد في إنجاز مهمة الإيصال بشكل ربما اكثر دقة وصحة من مترجم ربما خان وفد يخون مضمون النص؟
*شاعرة مغربية مقيمة بباريس