بقلم: عبد الدين حمروش
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الأيام، بالتعليق على رفض عميد كلية العلوم- بنمسيك إهداء طالبة جائزة الامتياز، إلى حين نزعها الكوفية الفلسطينية. ولقد تكلفت عدة منابر إعلامية بتغطية الواقعة، وفي ثنايا ذلك استنكار شديد لما بدر عن العميد من تصرف إزاء “موقف” الطالبة، المعبر عنه بحمل الكوفية (رمز الوطنية الفلسطينية). أكثر الردود “رسمية”، كان البيان الاستنكاري، الذي حرره المكتب المحلي للنقابة الوطنية للتعليم العالي، في النازلة.
غير أن مما جاء معاكسا للاتجاه العام، المستنكر لتصرف العميد، بل والشاجب له، كان رأي الأستاذ محمد المدلاوي، الذي عبر عنه من خلال تدوينة، نشرها على صفحته بالفايس. ويهمنا مناقشة “رأي” الأستاذ المدلاوي، لا لشيء إلا لكونه يتقاطع مع آراء عدد من الأساتذة، بخصوص قضية فلسطين بالتحديد.
مما ورد في التدوينة عن الأستاذ، قوله: “التعبير عن القناعة حق يضمنه القانون. لكن استغلال المنابر الرسمية لفرض التبشير به شيء آخر”.
تبدو التدوينة مجردة، كأنها معلقة في غير سياق، لولا إحالة الأستاذ إلى التعليق 1، الذي يظهر أنه دفع إليه دفعا، بعد وابل من التعليقات الناقدة. ومما ثبت في التعليق، وقد تقدم “الرجل” خطوة في تنزيل التدوينة إلى سياق الواقع، متابعته الرأي بالقول: “إذا ما فتحت المحافل والمنابر الرسمية لرفع الشعارات والتبشير بالألوان، فإن الشعارات متنوعة ومتنازعة”.
لي ردود على ما صدر عن الأستاذ المدلاوي، نكتفي منها بتسجيل أربعة، إضافة إلى إبداء ملاحظة. أما الملاحظة، التي نبدأ بها، فمؤداها خلو صفحة الأستاذ من أي متابعة لما يجري في قطاع غزة من فظاعات ومآس. وإذا كان من الطبيعي المسلم به، ألا يفرض أحد على أحد رأيه، في ما يكتب أو لا يكتب، فمن حقنا أن نقرا ذلك “الخلو” قراءة خاصة، في ضوء خرجة الأستاذ الفايسبوكية الأخيرة. ألا يهتز المرء من جراء ما يجري من إبادة للمدنيين، في حين يهتز معترضا على ما حدث للعميد من شجب واستنكار، على أساس أن “من حق المسؤول أن يرفض استدراجه إلى تزكية سيميولوجيات هو غير مجبر على التعبير في بابها في هذا الاتجاه أو ذاك”؟ أية “برودة” سلبية كانت من العميد، وأية “برودة” قاسية جاءت من الأستاذ المدلاوي، تحت عنوان: عدم ترك المحافل والمنابر الرسمية لرفع الشعارات والتبشير بالألوان؟
أما بالنسبة إلى الردود، وهي تندرج في صلب القضية، فنتناولها كالآتي:
1- التضامن مع الفلسطينيين الغزيين ليس مجرد “رأي”، بل قضية التزام أخلاقي ضد ما يجري في القطاع من إبادة جماعية. المحافل الدولية جميعها، بشكل صريح أو بشكل موارب، كان توصيفها “كذلك”، على أساس أن القتل الجماعي، والتجويع، والتهجير (إلخ)، كلها أفعال موصوفة بكونها جرائم ضد الإنسانية.
ليس هناك من لون، إلا لون “الإنسان” ذاته، أي حقه في الحياة أولا وقبل كل شيء. وفي هذا الباب، لو صعدت الطالبة إلى منصة التتويج حاملة شعارا “حمساويا” أو “فتحاويا”، مثلا، لقلنا إن في الأمر انحيازا سياسيا، ما ينبغي أن يكون داخل فضاء، كان الحرم الجامعي مكانه. نقول هذا الكلام مكرهين، ونحن نستهدف الذهاب إلى أقصى درجات الحياد، على أمل سد مختلف أبواب الذرائع في وجه المتربصين بالقضية: قضية الإنسان أولا، والفلسطيني ثانيا، والعربي ثالثا، والمسلم رابعا، والثالثي خامسا، والجنوبي سادسا، إلخ. أما إذا أردنا أن نتبنى الموضوعية الحقيقية، التي ليس لها إلا مضمون إنساني واحد، في السياق الحالي، فإن حماس، باعتبارها فصيلا فلسطينييا وطنيا مقاوما، لا تخرج عن إطار حركات التحرر الوطني، كما كان ذلك خيار جميع الشعوب المستعمرة، أمس في الماضي، واليوم في الحاضر. المغاربة أنفسهم قاوموا المستعمر الفرنسي بشتى الطرق، إلى أن نالوا استقلالهم في النهاية. ولذلك، فإن لا “موجب لأي شرع”، نمنع بحسبه الآخرين من التعبير عن رفضهم للاحتلال بالمقاومة.
الرأي الموضوعي المناسب عندي، أن لا أهمية للون الإيديولوجي، سواء أكان إسلاميا أم شيوعيا، أم حتى هندوسيا، في قضية تحرر وطني. ومادامت حماس قد أضحت تمثل جزءا مهما من حركة المقاومة التحررية، فإنه من الجدير بأي وطني حر رفع رايتها، إعلاء لكلمتها؛
2- كما قلنا، ليس هناك من شعار/ لون إلا التضامن مع الإنسان الفلسطيني، في وجه ما يتعرض إليه من إبادة جماعية، على مرأى من نظر العالم وسمعه. ولذلك، كان حمل الشعار الفلسطيني، في هذا الباب، من قبيل ما يوصف ب “أضعف الإيمان”، تبنيا لقضية إنسان مقهور، بات فلسطينا اليوم، وغدا لا ندري من يكون. ولأن التبني كان على أساس إنساني، بالدرجة الأولى، فلا غرابة إن وجدنا فئات واسعة من شعوب العالم تشارك في تبني القضية، وإن لم تكن لا فلسطينية، ولا عربية، ولا مسلمة. إن كان هناك من تعدد في الألوان، فهي لا تشذ عن اثنين: واحد مع الإنسان، بالانتصار لقضاياه العادلة في التحرر والكرامة.. وثان، ضد هذا الإنسان، وإن أمسى مغلفا بادعاء الموضوعية الأكاديمية، والحق في الاختلاف، وتجنب التنازع في المحافل الرسمية.
3- كانت الجامعة فضاء لإنتاج المواقف التقدمية التنويرية. غير أنها أضحت، اليوم، في ظل وجود أساتذة “لا لون لهم”، فضاء لإنتاج “اللالون”، الذي لا معنى له سوى إنتاج الخذلان، بدعوى الحيادية والموضوعية الأكاديميتين. لا قيمة لمؤسسة جامعية، كيفما كانت درجة تكويناتها العلمية، إن كانت لا تستطيع إنتاج نخب مثقفة، ملتزمة بالقيم الإنسانية النبيلة، مثل ما كان الحال عليه مع طالبة الكوفية. هكذا، كانت الجامعة عندنا قبل عقود التقهقر الأخيرة. وقد كانت لا تختلف، بالمناسبة، عما ظل يجري في جامعات العالم بأسره، من إدانات واسعة للجرائم الصهيو- أمريكية، اليوم؛
4- الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن المغرب: عن ترابه من طنجة إلى الكويرة، وعن سيادته واستقلال قراره. وإن كان هناك من الفلسطينيين من يطعن في الوحدة الترابية للمغرب، فإنه يطعن في تطلعه هو نفسه إلى الحرية والاستقلال. ولن يزيدنا الانتصار للحق الفلسطيني إلا انتصارا للحق المغربي، في أحقيته بجميع أراضيه وأقاليمه. أما المزايدة علينا، بتصريح هذا المسؤول الفلسطيني أو ذاك، بشأن أقاليمنا الجنوبية، فلهي استغلال فاضح لقضية وطنية، لا يخفى الخبث والمكر الموظفان فيها، ضمن أجندا تحويلنا إلى تجار نخاسة في سوق القيم.
الدفاع عن السيادة الترابية يقترن بالدفاع عن الحق الفلسطيني. لا انفصام لعروتهما ولا انفصال. هكذا، كان المغاربة يقولون، حين يرفعون القضية الفلسطينية إلى مرتبة القضية الوطنية، ولا يتزحزحون عن ذلك قيد أنملة