كتبه: سعيد بوعيطة
أينما وليت وجهك اليوم (البيوت، الفضاأت العمومية/ الشوارع، الحدائق، المقاهي، وسائل النقل…الخ)، تجد الإنسان منكفئ على هاتفه الذكي. أما داخل المساجد (بيوت الله كما يسميها المغاربة)، فبمجرد التسليم، تمتد الأيادي لهواتفها بطريقة غير إرادية. فكأننا في هروب متواصل من واقعنا، أو سفر ذهني غير منقطع، فإلى أين نحن سائرون/ مسافرون؟ فإذا كان السفر/ الهجرة يتغيا طلب العلى على حد تعبير الإمام الشافعي (تغرب عن الأوطان في طلب العلى/ الديوان، ص: 57)، فهل نحن فعلا نطلب العلى بواسطة هذا السفر التكنولوجي الافتراضي؟
موسم الهجرة إلى العوالم الافتراضية
لا أحد ينكر اليوم (ولا يستطيع) التطور الذي عرفته التقنية المعلوماتية بشتى أنواعها. وإذا كنا لا ننكر الجوانب الإيجابية لهذا التطور في مختلف المجالات، فإنها تحمل كذلك أبعادا سلبية عدة. فلا يكاد بيت من البيوت ( حتى في القرى والبوادي النائية)، يخلو من حضور هذه التقنية (الهواتف الذكية، الحواسيب، أشكال الإنترنيت، الفضائيات…إلخ). مما أدى بالروابط الأسرية إلى التلاشي بشكل خطير. فداخل أغلب البيوت الأسرية، غالبا ما ينشغل الأبناء طوال الوقت بحواسيبهم، الأمهات بهواتفهم الذكية، و الآباء بالفضائيات أو الهواتف طول النهار والجزء الكبير من الليل. مما أدى إلى نوع من الإدمان على هذه الأجهزة المختلفة، التي أترث بشكل جلي على الحياة الأسرية و العائلية، وعلى الصلات المقدسة التي تربط بينها. تفككت على إثرها الروابط التي تجمعها، أو في طريقها إلى التفكك. مما جعل أفراد الأسرة الواحدة يعيشون نوعا من التباعد على الرغم من أن منزلا واحدا يجمعهم. فيما يرتبطون بأشخاص وعوالم افتراضية، على الرغم من بعدها عنهم. وهنا تكمن المفارقة الخطيرة. بحيث يصبح القريب بعيدا، فيما البعيد الافتراضي/ المجهول قريبا. يرتبط الإنسان بأشخاص في أبعد نقطة من الكرة الأرضية، على الرغم من كونهم عبارة عن أشخاص افتراضيين و بمثابة أشباح فقط. فيما تنقطع روابطه مع أقرب الناس إليه (الأب، الأم، الإخوة، الأخوال، الأعمام، الجيران… إلخ).
ما كان وما هو كائن
لقد نمت ظاهرة الرغبة في التواصل عبر هذه الوسائل المختلفة، حتى شكلت نوعا من الاغتراب و الانكفاء على الذات. وانقطاع الصلة بالمحيط الاجتماعي (الصلة مع جار السكن وجار العمل بل مع رفقاء البيت الواحد). مما خلق شبكة من العلاقات على اتساع العالم بأسره. غالبا ما يتعرض الفرد من خلال هذه العلاقات الافتراضية للخداع والتنكر و استغلاله لأغراض غير مشروعة قانونيا و أخلاقيا. مما يسبب الانحراف و التدمير بجميع أشكالـه، و أدى إلى خلق فجوة حادة بين ما كان (علاقات أسرية و عائلية متماسكة)، وما هو كائن (تفكك هذه العلاقات الأسرية والعائلية). جعل الإنسان العربي المعاصر (المغربي خاصة) يسير نحو نوع من التلاشي والتيه في متاهات قد نجهل نتائجها. فهل نحن في بداية عصر النهايات؟
عصر النهايات
عصر النهايات يشير الباحث نبيل علي في كتابه ”الثقافة العربية وعصر المعلومات (عالم المعرفة، عدد 265، 2001)، إلى أننا يمكن النظر إلى هذه الهيمنة، باعتبارها بداية لنهايات جديدة. إنها مرحلة تتهاوى فيها مجموعة من الأشياء وتتلاشى. إنه عصر حثيث الخطى، يصنع تاريخه وفق سلسلة لا متناهية، ومتسارعة الإيقاع من جولات الهدم وإعادة البناء وفق تصورات و معايير جديدة . يسير العالم نحو نهايات عدة : نهاية المدرسة، نهاية الأسرة ، نهاية الكتاب، نهاية الوسطاء، وغيرها من النهايات. إن ما يهمنا في هذا السياق، نهاية الأسرة . وما لحق هذه الأخيرة من تحول في العلاقات وتشتت ( ونحن في بداية الطريق ). لكن على الرغم من ذلك، فإننا لا نستطيع فكاكا من قبضة التكنولوجيا التي توهمنا بأنها تحت سيطرتنا. لكن الحقيقة ليست كذلك. إنها تكنولوجيا مصابة بداء الحصاد ( كما وصفها الفيلسوف هيدجر ): حصاد الطبيعة، حصاد الأجساد و حصاد العقول. فبعد أن كان السؤال الضمني الذي انطلقنا منه هو : ماذا جرى لنا ومن حولنا؟ بقي أن نطرح سؤالا محوريا اخر وهو: ما مصيرنا إذا بقينا على هذه الحالة؟ ماذا تبقى لنا؟
هذا السؤال ليس استفهاميا، بل إنكاريا. نثبت من خلاله (من خلال تصورنا على الأقل) بأن اندثار قيمنا، واندثار وجودنا على جميع المستويات قاب قوسين أو أدنى. سنعيش بدورنا أزمة القيم الراهنة التي يعرفها الغرب و تسللت لمجتمعاتنا العربية. فعلى الرغم من كون هذه المنظومة المعلوماتية، أصبحت تمس قضايا جوهرية عند الإنسان العربي وعلى رأسها منظومة القيم، فإن الخلل في الإنسان العربي نفسه. فإذا كنا لا نملك الخيار في استعمال هذه المنظومة المعلوماتية. فلنا الخيار (على الأقل) في طرق استعمالها وتسخيرها وفق حاجياتنا الضرورية. وفي الوقت نفسه، توجيه الأبناء في تعاملهم مع هذه المنظومة ومراقبتهم. قصد إعادة الدور الأساسي للأسرة باعتبارها أساس المجتمع. فإلى أين نحن سائرون؟ بكل بساطة نحن على تخوم التفكك والاندثار. لسنا ممن يمتطي خطاب الأزمات، لكن هذا هو واقع حالنا اليوم شئنا أم أبينا.