القُرب من السُّلطان.. سيرة “رجل دولة” مع أربعة سلاطين (كتبه: عبد الدين حمروش)

                                                                                                                                                كتبه: عبد الدين حمروش  

             

تتناول هذه المقالات سيرة المؤرخ المغربي أبي القاسم الزياني. وزيادة على كون “ابن زيان” عُرف بالتأليف التاريخي، فقد تقلّب في وظائف مخزنية عديدة، منها الكتابة، والوزارة، والسفارة، والولاية، والحجابة. عاصر الزياني (أبو القاسم) خمسة سلاطين علويين    ابتداء بالمولى عبد الله بن إسماعيل، وانتهاء بالمولى عبد الرحمن بن هشام، إلى أن كُتب له أن يشرف على المائة سنة. في مختلف مسارات حياته السياسية والعلمية، صدر أبو القاسم عن مواقف أصيلة، أهّلته إلى أن يوصف بزوبعة عصره. في هذه المقالات، نستعيد سيرة رجل دولة من الطراز الرفيع، قلّما يعرفه المغاربة من غير المطلعين على التاريخ، ونستعيد معها القضايا السياسية والثقافية المستجدة آنئذ، في اشتباكها مع ما كان يدور في القصور والبلاطات، من مؤامرات وتصفيات حساب، بين الأمراء والوزراء والكُتّاب.

 

  • أسقطتُ عنك حتّى السّلام علينا:

كتب السلطان العلوي المولى سليمان رسالة إلى الكاتب الوزير أبي القاسم الزياني، يدعوه فيها للعودة إلى المغرب، بعد غيبة دامت سنوات عن أهله وبلده. ومما ورد في الرسالة عن السلطان: ” فإني عاهدت الله ورسوله لا أكلّفك بخدمة ولا كتابة ولا أقلدك عملا فإنك بمنزلة والدنا وأشفقنا من حالك وفراقك لأهلك وولدك، فاقْد لدارك ولا ترى منا إلا ما يسرك، وقد أسقطت عنك حتى السلام علينا لا نعاتبك بعدمه، ولك أمان الله ورسوله الذي جئت من حرمه والسلام”. من يكون الزياني هذا، الذي     توجد رسالة السلطان إليه مبثوثة في مؤلَّفه “الترجمانة الكبرى في المعمور برا وبحرا”، سوى أنه أحد خُدّام السلطان نفسه؟ كيف يُؤمِّنه السلطان إن عاد، وقد فعل فعلا شنيعا، دفعه دفعا إلى الفرار خارج المغرب، بل ولا يكلفه حتى مجرد القدوم إليه للسلام.

إن قراءة الرسالة، وهي بالمناسبة طويلة نسبيّا، تُوقفنا على أمر في غاية من الوضوح: انقلاب المواقع. ومن ثم، ونتيجة لهذا الانقلاب، أضحى بإمكاننا الحديث عن اختلال في العلاقة بين السلطان وأحد خُدّامه. السلطان هو الذي كان يترجّى كاتبه العودة إلى المغرب، في حين أن الأخير ظل يمتنع عن ذلك. ومما يكشف عن هذا المعطى الواقع، اللغة المستعملة في خطاب الرسالة، والتي وصلت إلى درجة إعفاء ” الخديم” من السلام على ” المخدوم”. وإن كان الخطاب يتعلّل بظروف الأدنى مرتبة، الذي هو أبو القاسم الزياني بذاته، وظروفه في غربته بعيدا عن أهله وبلده، إلا أن “تَرجُّل” السلطان عن موقعه المعهود، كما لم تحفظ لنا ذلك الآداب السلطانية وأدبيّاتها، ينمُّ عن وجود “اختلال” في العلاقة بين الطرفين.

في كتاب ” التّاج في أخلاق الملوك”، المنسوب إلى الجاحظ، توجد أدبيّات في التصرف مع الملوك، حضورا، ومُخاطبة، ومُجالسة، ومُنادمة (إلخ). والملاحظ أن الكتاب مُوجّه إلى الأمراء، والولاة، والوزراء، والحاشية، وبالتالي كل ذي حظ بلقاء الملك (السلطان). ومن ثم، فإن الكتاب، مُتَّجه، من حيث رسالتُه الكبرى، إلى الرعيّة (خواصها وعوامّها)، بالإفادة من أساليب اللقاء بالملوك والتصرف معهم، في مختلف حالاتهم الرسمية والشخصية. الأخلاق الملوكية، كما هو مضمن في العنوان، لا تنعكس إلا في مَا يجب على الرعية إزاء ملوكها. ولذلك، فإن تبئير العنوان على الملوك، بالتركيز على موضوع أخلاقها، إنما هو مُتأت من ضرورة إيلاء العناية بالأعلى موقعا من الأدنى منه.

إن الرسالة الجوهرية من تأليف الكتاب، التي التزم الجاحظ نفسُه بها أوّلا، والتي نص عليها منذ البداية، يمكن تبيُّنها من خلال قوله: ” ومنها أن أكثر العامة وبعض الخاصة، لما كانت تجهل الأقسام التي تجب لملوكها عليها – وإن كانت متمسكة بجملة الطاعة- حصرنا آدابها في كتابنا هذا لنجعلها قدوة لها وإماما لتأديبها”. التعاطي مع الملوك، في جميع أحوالهم، أو على الأقلّ في شتى حالاتهم، يقتضي الالتزام بآداب مرعيّة. وفي سياق هذا، وطّأ لقاعدة عامة، بالنظر إلى عُلوّ موقع الملوك داخل تراتبيّة “الدولة”. ذلك أن بمقدار جلال قدر الملوك، وعظمة شأنهم، جُعل لهم الحق في ” أن تُدعى إلى الله بأسهل القول وألين اللفظ وأحسن المخاطبة”. وبالطبع، فإن تلك الآداب لا تقف عند المخاطبة، بحكم ضمها لعدة أبواب: الدخول على الملوك، مُطاعمة الملوك، مُنادمة الملوك، صفات ندماء الملك، إلخ.

لقد تشكلت آداب وأدبيّات، لدى مختلف شعوب المعمور، وعلى تعاقب العصور. والجاحظ، وهو يعرض ما يجب التعاطي بها مع الملوك من آداب، عبر سرد عدد من الوقائع والحالات، كان لا يني عن الاستشهاد بالأمم الأخرى (الفرس مثلا)، في تعاملها مع ملوكها وسلاطينها وأمرائها وولاتها، حتى إنه لم يترك “شاردة” في الموضوع إلا ذكرها. هكذا، تكونت لدينا أدبيّات وُصِفت بالسلطانية. وفي هذا، يمكن الإحالة إلى كتاب الأستاذ الباحث عز الدين العلام، الحديث زمنا وتاريخا. والجاحظ، وإن لم يأت على ذكر ” التاج” في مُستهل “الحيوان”، ضمن كُتبه الأخرى، إلا أنه لا يبعد أن يكون أحد مؤلفاته، التي ألّفها في علوم متنوعة، ومواضيع مختلفة.