من المعمار الأفقي إلى المعمار العمودي
منذ النصف الأول من القرن الماضي، تباينت آراء ومواقف المختصين في فن العمارة الحديثة، بشأن الرؤى والتصورات المتعلقة بأنماط الهندسة المعمارية. ظهر على إثر ذلك أنصار المدن الرأسية، أو ما يعرف بالرأسية العمرانية التي توفر الأرض، وتزيد من عدد الأشخاص لكل متر مربع، وتقلل من ضياع الوقت بين العمل والمنزل، نظير مؤيدي المدن الأفقية التي تستجيب للأذواق، بمنح الأفراد حرية الاختيار في التصميم العمراني، وتحترم الخصوصية، باستجابتها للاحتياجات الإنسانية العامة. كما تحافظ على الهوية والثقافة المحلية. وبين هذا الموقف وذاك، حرص كل فريق على تعزيز أطروحته بدلائل تجعلها صلبة أمام الأخرى. فظهرت دراسة تحذر من أن تزايد أعداد السكان، وعيشهم متزاحمين بقرب بعضهم. مما يزج بهم في حالة من التوتر، مع بروز شتى مظاهر الفوضى والانحرافات السلوكية السلبية. لهذا، رفضت المعمارية كاثرين باور (1905، 1964) فكرة التمدد الرأسي للمدن، فالأصل حسب تصورها أن النمو يجب أن يكون أفقيا. لأن المسكن المثالي (حسب كاثرين بارو) يجب أن يكون وفقا للتقاليد الثقافية والقيم التاريخية للفرد. لهذا، فالمسكن في رأيها أكبر من مجرد مأوى أو ملجأ مادي. إنه يشكل مكانا يؤسس شبكة اتصال مع من حوله في الحي أو الحارة أو الزقاق أو الدرب أو المحيط الجغرافي بشكل عام. يمارس فيه عاداته وتقاليده (الايجابية منها والسلبية) بكل حرية. وهذا ما لا تسمح به حالة الامتداد الرأسي(العمارة) الذي يجبر الفرد- وفق قولها – على العيش في بيئة غير شخصية، وحالة ميكانيكية تحكم المجتمع.
المعمار العمودي وهيمنة السلوك البدوي
لا أحد يجادل اليوم في كون زحف الإسمنت (لا نريد قول زحف التمدن، لأننا لم نصل بعد لمستوى المدينة بكل ما تحمله الكلمة من معنى حسب وجهة نظري على الأقل) بشكل سريع، على القرى، جعل العالم ومنه المغرب يسير نحو نسق ستتفوق حواضره على قراه في المستقبل القريب. فقد أضحت المدن وبعض القرى التي تحولت إلى مدن تحت مسمى المدن الجديدة، عبارة عن بقع إسمنتية من البنايات لا غير، اكتسحت مساحات الغابات والأراضي الفلاحية، و غطت جداول المياه. فتحول معها المعمار من وضعه الأفقي الطبيعي إلى طوابق إسمنتية عمودية. نتيجة غلاء أسعار الأراضي، واستفحال المضاربات، والتهافت على جني الأرباح، دفع بالمنعشين العقاريين إلى الاستثمار فوق الأرض، وصولا إلى أفق السماء، سعيا إلى إشباع الطلب المتزايد على السكن. مما فرض حتمية السكن المشترك. مما حد من استمرار الأسرة الممتدة (الجد، الأب، الان)، التي تحولت إلى أسرة نووية/صغيرة (الزوج، الزوجة، طفل/طفلان). تتقاسم مع غيرها طوابق المساحات الضيقة. لكن هذا النمط المعماري الجديد المستورد من بقاع الغير، لم يوازيه سلوك فردي/ جماعي إيجابي يكون موازيا لهذا النمط المعماري المشترك (العمارة). فقد أكدت التجربة (من خلال الحياة اليومية) أن فضاء العمارة المشترك لم يوازيه تحول سلوكي ملائم للسكن المشترك. ليصبح عبارة عن معمار حضري بسلوكيات بدوية (ليس بالمعنى الجغرافي القدحي). لتتحول العمارة إلى ورطة تقض مضجع المجتمع، نظرا لكونها أسلوب حياة دخيل، ما يزال الإنسان المغربي غير مؤهل، لاستيعاب شروط حسن التعايش في ظله. لأن بقايا النظام البدوي (الأسرة الكبيرة)، ما زالت مترسخة في لا وعيه وسلوكه.
في الحاجة إلى ثقافة العمارة
فرض هذا النمط الجديد من الجوار، تقاسم مجموعة من الفضاءات المشتركة (الممرات، السطوح، المصاعد، المساحات الخضراء …الخ). مما يتطلب نوعا من التعايش بين جيران السكن المشترك، المبني على ثقافة العمارة إن صح التعبير. لكن الجهل بالقوانين والتقيد بمقتضياتها، شكل أساس غياب ثقافة التعايش في سبيل المصلحة العامة لفضاء العمارة. فقد هيمنت المصلحة الفردية باعتبارها امتدادا لثقافة المعمار الأفقي. حيث كان القاطنون في هذا الأخير يهتمون بفضائهم الخاص على حساب الفضاء العام المشترك. كما ازدادت حدة السلوكات السلبية في السكن المشترك (العمارة) بسبب تراجع القيم الأخلاقية (ليس بالمعنى الديني)، وفشل المنظومة التربوية في التنشئة، وتراجع دور الأسرة بشكل كبير في إنتاج إنسان يحترم القانون (يدرك حقوقه وواجباته).
يظهر ذلك بشكل جلي في سلوكيات القاطنين بالسكن المشترك ( الضوضاء، رمي القاذورات وقضاء الحاجة (تبول الأطفال) بالممرات والسلالم، نشر الغسيل في الممرات والنوافذ، نشر القديد (أيام عيد الأضحى على النوافذ)، التدخين بشتى أنواعه، رفض الالتزام بدفع واجب الحراسة، والنظافة والإنارة، بناء وتغيير معالم العمارة، رفع صوت الموسيقى في أوقات متأخرة من الليل،…إلخ. لهذا، وجد إنسان العمارة نفسه في ظل معادلة صعبة، بين مراعاة حسن الجوار التي تمتح شرعيتها من النصوص الدينية و السلوك المدني، وبين وضع مسافة بينه وبين جيرانه. مما زاد من معضلة الاندماج التي يعرفها المعمار العمودي (العمارة) التي ستبقى قائمة، نظرا لاختلاف بيئات القاطنين وتراكماتهم الاجتماعية والثقافية (بالمعنى الأنتروبولوجي)، وتمايز مجالاتهم الجغرافية واللغوية والاثنية. لهذا، فما لم يحاول الإنسان المغربي (قاطن العمارة) تغيير ثقافته وسلوكه، تماشيا مع التحول العمراني الذي عرفه و يعرفه المغرب. من أجل بناء ثقافة خاصة بالشكل الهندسي للعمارة. فإن هذه الأخيرة ستبقى عبارة عن بوادي داخل المجال الحضري. فهل نحن فعلا مستعدون لتغيير سلوكنا وثقافتنا لتوائم تغيير فضاءاتنا المعمارية (الجغرافية)، كما نغير قمصاننا وأحديتنا، وهواتفنا الذكية وسياراتنا،…الخ، ونحن نوهم أنفسنا (خاطئين) أننا ولجنا عالم المدنية. هذا هو السؤال/ المعضلة الذي سيظل قائما ما بقيت دار لقمان على حالها في سلوكياتها وثقافتها.