جزائري يفتح لنا قصر الإمبراطور النمساوي (عبد الدين حمروش)

بقلم: عبد الدين حمروش

إيطاليا على حدود فرنسا، ولكن الإيطاليين لا يتحدثون الفرنسية. أما النمساويون، فهم على حدود إيطاليا، ولكنهم لا يتحدثون الإيطالية. الشراكة الأوروبية قائمة في كل شيء، باستثناء اللغة. كل شعب يتشبث بلغته وبثقافته، ماعدا الاشتراك في القيم الغربية الأوروبية، ممثلة في الحضارة المسيحية، والمكتسبات العقلانية الديمقراطية. غير أنه، وإن خرجت بريطانيا العظمى من الاتحاد الأوروبي، إلا أن الانجليزية تظل لغة الأوروبيين جميعا، وبدون استثناء. كل شعب يتمسك بلغته، بينما الإنجليزية لغة الجميع. الإنجليزية هي الحل، حين تكون في إيطاليا، مثلا، ولا تعرف التواصل بالإيطالية. الفرنسية لن تشتري لك حتى خبزة حاف من مخبزة، لتسد بها بعضا من جوع. لقد ضيعونا بتعلم الفرنسية، واليوم يستمرون في تضييع الأجيال الحالية، واللاحقة.

في النمسا، حيث الألمانية هي السائدة، لا أمل في التواصل مع أهل البلد بغير لغتهم، وفي مرتبة ثانية منها الإنجليزية. ومع ذلك، فالعربان لا تخطئهم عين في جميع المهاجر. العرب، في جزء منهم، مثل “الأيتام على موائد اللئام”، كما وصفهم ابن زياد. كل من تلتقيه منهم، لا يتردد في التأفف من البلاد التي يقيم فيها، بسبب الغربة، وقساوة الحياة، والعنصرية حتى، سواء أكان طالبا أم مقيما أم لاجئا.

ونحن نسعى إلى اقتطاع تذكرة الولوج إلى أحد القصور الإمبراطورية في مدينة نمساوية، وجدنا صعوبة في التواصل مع العاملة في مكتب الأداء. في القصر، الذي صار متحفا، هناك طابقان للزيارة. ولأن النمسا تعرف كيف تستخلص من زوارها كل سنتيم، بحيث لا شيء هناك بالمجان، فالواجب أن تؤدي عن كل طابق، تود الدخول إلى أجنحته، تذكرة خاصة به. المهم هو أنني حصلت على التذكرة، بعد إحالتي إلى عاملة أخرى، من حسن حظي أنها كانت عراقية، ولو أن عربيتها عامية محلية. حصلت على التذكرة، ولكن لا أدري هل هي لطابقين معا، أم لطابق واحد.

وأنا أهم بالدخول، طلب مني أحد أعوان الخدمة بالباب التذكرة، متحدثا إلي بالألمانية. لم أفهم شيئا. حاولت بالإنجليزية، إلا أنها ضعيفة لدينا معا. وأنا أهمهم ببعض الكلمات غير المسموعة، حدس أنني من بلاد العربان، ولو أن مثلي، من ذوي البشرة السمراء من البنغاليين والباكستانيين والهنود، موجود بهذه البلاد المرمية في شمال أوروبا، حيث لا تطل على بحر من أي جهاتها. اللغة والبحر يسيران، معا، وبشكل متواز. خاطبني: أنت عربي؟ اجبت: ومن المغرب. لمحت أساريره تنفرج قليلا، وهو الواقف كالتمثال أمام الباب، لا أدري كم من الوقت. أن تقف في مكان ضيق، لا يسع حركة رجليك على مدى بضعة أمتار، ذلك هو العذاب المبين، حتى ولو بدون شغل شاق في العمل.

كأنه عثر على أخ له، فارقه منذ عدة سنوات، أخذ يقبل علي بالحديث، حتى ولو أن المكان ظل يملؤه العبوس من أرضيته إلى سقفه. قال لي مرحبا: “المغاربة خاوتنا”. ثم أضاف، بعد ذلك، مباشرة: شوف العرب والمسلمين كلهم “بحال بحال” عندي. تعجبت كيف تؤويه هذه البلاد، وتوفر له عملا، لم يظفر به في بلده، ثم يجحد، كما يجري على ألسنة معظم المهاجرين العرب، في مثل هذه المواقف العامة، فضل المضيفين. والمفارقة أن الأموال في بلداننا يتصرف فيها البعض، بينما الأغلبية يعيشون في ضيق، وضمنها من اختار الغربة، في بلدان الأعاجم، وطنا. قال لي شارحا: هنا، الناس لن يبالوا بك، إذا لم تشتغل كثيرا، حتى يكون لك مال كاف. كل شيء مؤدى عنه. وهذا ما لاحظت بسرعة قبل لقائي به. تؤدي تذكرة زيارة برج تاريخي، وحين تريد أن تستعمل المنظار، للإطلالة على المدينة من فوق، ينبغي عليك أن تؤدي إضافة. على الأقل، هذا غير موجود بإيطاليا الجارة. بنبرة عالية أكثر، انتقد العنصرية المتفشية كالنار في الهشيم. أنا أعرف أن الحزب الحاكم، اليوم، في النمسا، هو حزب يميني. وبالطبع، فإن أغلبية المواطنين، حتى وهم يلاقونك بأدب ولياقة، إلا أن خلفياتهم يمينية.

لا أدري هل هو رد فعل على حياته الصعبة في النمسا. تملى التذكرة، ثم قال لي: التذكرة مخصصة لزيارة المتحف، وليس لزيارة غرف القصر، حيث “القيصر” كان يأكل، وينام، ويستقبل الضيوف (إلخ). ومع ذلك، فالشاب الجزائري، الذي خمنت أنه لم يتجاوز الثلاثين، سمح لي، وبإلحاح منه، بالولوج إلى غرف القصر. رفضت ذلك، خشية أن أسبب له إحراجا مع مشغليه، إن علموا بالأمر، أو أضع نفسي في موقف لا يناسبني. حثني على الاستعجال قائلا: أدخل يا أخي. ليس هناك أي مشكل.

هكذا، فتح لي الجزائري أبواب القصر، ودلفت إليه مسرعا. وبعد جولة في ردهاته، خرجت محييا إياه، داعيا له بالصحة والعافية. وقبل أن أنزل الدرج، أفادني بأن هناك مغربيا اسمه “خليل”، يمكن أن أشرب في محله الشاي. هو رجل لطيف، تابع. قلت مع نفسي: هذا خبر جيد، وبخاصة مع كوني أتأفف من تناول الوجبات، التي لا أدري هل ضمن مكوناتها لحم الخنزير. أنا “بلدي” في مأكلي ومشربي. وأول صعوبة تعترضني بالخارج، هو التغذية التي ألفتها مغربية، وإن لم تكن كذلك فعربية. الذوق تربية، ومنذ السنوات الأولى للمرء. هادشي اللي اعطى الله بالنسبة إلي على الأقل.

هل عرفتم لماذا لم أذكر المدينة النمساوية التي زرت، والقصر الإمبراطوري الذي ولجت؟