الفوضى عند خولة (بقلم: عبد الدين حمروش)

بقلم: عبد الدين حمروش

 

 

التقيتها في نشاط ثقافي، نظمته مؤسسة الفقيه التطواني، بمدينة سلا، قبل أكثر من شهر. كانت تتابع المداخلات من خلف. شابة جميلة أنيقة، تشع من عينيها بروق من تطلع وتوثب.

بعد نهاية الحفل، اقتربت مني محيية. أهلا وسهلا ابنتي، أجبت. بعد ذلك، أضافت: أنا خولة. وقبل أن تكمل، استعدت اسمها بالكامل: خولة العلوي، الباحثة في البيولوجيا، وابنة الشاعر التطواني ناصر العلوي. أي، نعم، أستاذ. في محادثة مباشرة، قبل لقائنا بأسابيع، كان والدها قد حدثني عن شغف ابنته بالكتابة، وعن قرب صدور مجموعة قصصية لها. تماما، ردت محركة رأسها. وبدون انتظار، دست يديها في حقيبتها الشخصية، وأخرجت كتابا، ثم مدته إلي قائلة: هذه مجموعتي القصصية الأولى “فوضى مورفي”. وعدتها بأن أقرأها، وأعبر لها عن انطباعي في المجموعة، حالما أنتهي من قراءتها.

منذ مدة، بدأت أوقن بأن أجمل “شيء”، يمكن أن يقوم به المرء، ممن يتوسم في نفسه القدرة على متابعة الأعمال الأدبية الصادرة، هو تغطية كتابات الشباب. وإن لم يكن الشباب، فالأجانب، وإلا فالموتى أحق بالكتابة عنهم. من خلال تجربتي في تغطية منشورات بعض الأصدقاء، انتهيت إلى أن الكتابة عمن يعاصرونك زمنا، ومن بلدك نفسه، تفرض قيودا معينة. ولذلك، تكون الحرية أوفر، عند الكتابة عن الشباب، “الداخلين” إلى عالم النشر جديدا.

من هؤلاء، القاصة الشابة خولة العلوي. تخصصها في البيولوجيا، وهي التي شارفت على مناقشة أطروحتها لنيل الدكتوراه، تغري بقراءة مجموعتها. ذلك أن الأسماء التي نزحت عن تخصصاتها العلمية، وقدمت إلى مجال الإبداع الأدبي، ثم تميزت فيه إلى حد بعيد، هي عديدة. ولعل اسم خولة، بالنسبة إلى موضوعنا الحالي، يمكن أن تكون واحدة من تلك.

انتظرت إلى أن سافرت إلى “الخارج”، حاملا “فوضى مورفي” بين أمتعتي، على أمل قراءتها وقتما يتوفر هامش. وكان الأمر كذلك، وبخاصة في ظل اتسام نصوصها القصصية بسمة القصر. هي نصوص قصيرة، يمكن قراءة النص الواحد منها في دقائق قليلة. ومن خلال هذه السمة، كدت أجدني غارقا في عوالم الشعر، لا عوالم القصة. ليست هناك أية ثرثرة بتاتا. كأن خولة تكتب بإبرة وشم على كتف. غير أن تفاصيل الوجوه، والأمكنة، والوقائع والحالات، تبدو جد واضحة.

إن اقتراب خولة من رصد الكوامن من الأحاسيس والحالات، عبر تسليط الضوء على الوقائع، يكاد يعلن عن نفسه، بكونه هو المهيمن. حول هذا، كتب الأديب القاص أبو يوسف طه، في التقديم الذي تصدر المجموعة، بوضوح تام، الأمر الذي لم يترك لي فرصة إلا إعادة الاقتباس منه، على النحو المجمل التالي: “في قصص المجموعة وقائع تبدو في غاية البساطة، لكنها مثيرة لعواصف من المشاعر، فالشيء يبدو تافها في الحياة، والطريق فيها يؤدي إلى مساحة فارغة من السؤال وحيرة البحث عن الجواب”.

ليست هناك ثرثرة، كما ليست هناك مفارقات صاخبة. الأحاسيس والحالات تصطدم ببعضها البعض، ولكن دون صخب أو ضوضاء. وإن شئنا التعبير بصيغة أخرى، قلنا: إنه الصخب الصامت، أو الصمت الصاخب. إنها “فوضى” مرتبة من الأحاسيس الجوانية، وإن التبست ببعض الوقائع والتمظهرات المادية. والعنوان يحيل، بحد ذاته، إلى نظرية الفوضى أو “تأثير الفراشة”، تلك النظرية التي وضعها عالم الأرصاد الأمريكي إدوارد لورينتز.

خولة تكتب بلغة أنيقة مهذبة. جملتها، وإن تمددت لتصير ثلاث جمل أو أربع، فهي تظل، داخل النسق التركيبي العربي الرشيق، منطوية. عنايتها باللغة، هي عناية شاعرة أكثر منها عناية قاصة. ولذلك، لشد ما أسرتني لغتها الخفيفة العذبة، وهي تخوض في رصد الكوامن الصاخبة. أليس الأدب لغة قبل كل شيء؟ ثم أليس الأديب هو لغته؟

للقاصة لغتها. وهي لغة، إضافة إلى أناقتها ورشاقتها، تبدو شفافة ومعبرة. لعل هذا ما أثارني في المجموعة. ولذلك، ليس من الغريب أن يتحول الصخب الصامت إلى آخر ناطق، عبر الانفتاح المقبل على عوالم أخرى مختلفة، بكل الجرأة التي عرفناها عن هذا الفن الأدبي، ولدى قصاصين عديدين.

هل نجحت في الاقتراب من الكون القصصي لخولة؟ لا أدري. يمكن أن يكون ذلك قد تحقق في جزئية ما، وبصورة انطباعية عامة. لكن ما يخفف عني مسؤولية المتابعة، هو أن ملاحظاتي هاته لا تعدو كونها تحيات. ومما لا شك، فستتالى التحيات بعد ذلك. وليس أفضل من أن أختم “التحية” الحالية بمقطع للقاصة نفسها، من نصها “عصير النهايات”:

“بتوافق الأقدار، انقضت عليه الأحزان في إحدى ليالي يوليوز الحارقة. انتفض من الأريك، اتجه نحو الثلاجة، كانت أقصى أمانيه آنذاك عصير برتقال بارد متبق من وجبة الغذاء. نظر مليا وفتش في كل الأدراج والرفو، ولم يعثر إلا على قنينات ماء فارغة ترتطم ببعضها البعض، لتبدو كأنها ترقص على آماله الخائبة”.