صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “هذا الجدل في المغرب… قوة التعيين و قوة الانتخاب”. و نظرا لأهمية المقال، نعيد نشره بالكامل.
صار موعدُ تقديم الحصيلة الحكومية المغربية، في منتصف كلّ ولاية، تمريناً سياسياً ومؤسّساتياً لا محيد عنه منذ ربع قرن تقريباً، حين أسّسه شيخ الاشتراكيين المغاربة الراحل عبد الرحمن اليوسفي إبّان قيادته حكومة التناوب في تسعينيات القرن الماضي، باتفاق “فوق سياسي”، إذا شئنا القول، مع الراحل الملك الحسن الثاني، وهو عادة ما يتميز بثابتين. من جهة، تقديم رئيس الحكومة حصيلة 30 شهراً من ولاية جهازه التنفيذي، في محاولة لإبراز المُنجزات، وتقديم الأرقام التي تثبت جدارة فريقه، ومن جهة ثانية، تكون المناسبة سانحة لتعديل حكومي، وإجراء تغييرات في “الكاستينغ” الذي يقود السلطة التنفيذية في المرحلة الثانية.
ولعلّ الفرق الجوهري بين التمرين الحكومي أيام اليوسفي وممارسته مع عزيز أخنوش حالياً، وقبله مع عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني، هو وجود دستور 2011، وهو مختلف تماماً عن دستور 1996، الذي مارس الراحل اليوسفي تحت مظلّته التدبير الحكومي والحصيلة الأوّلية. ومكمن الفرق أنّ المسؤولية على رأس الحكومة صارت مع الدستور الجديد محكومة بإجبارية الانتخاب، ولا يمكن لملك المغرب ألا يراعي نتائج الانتخابات في تعيين “شريكه” الدستوري في تدبير الحكومة، وهو “إكراه” جديد يعطي وضعاً اعتبارياً غير مسبوق لرئيس حكومة المغرب، علاوة على أن الدستور نفسه ينصّ على أنّ الحكومة لا تمكن إقالتها إلا بإجراء انتخابات جديدة. وعليه، فنحن أمام دستور جديد جاء في سياق تحوّلات كبيرة، مسّت الدولة في المغرب، ونظام اتخاذ القرار، في سياق تحوّلات عربية وإقليمية كبيرة للغاية. وفي هذا الإطار، تندرج مناقشة الأداء الحكومي، مؤسّساتياً وفي الميدان.
وما ميز تقديم حصيلة الحكومة، من هذه الزاوية، هو سلوك رئيسها الثري عزيز أخنوش إزاء الفرقاء السياسيين، بحيث سجّلت مسارعته إلى إظهار نوع من “الانتشاء الذاتي”، الذي يفوق منسوبه ما اعتاده المغاربة من المسؤولين الحكوميين في الولايات السابقة، بل لعلّ كثيرين لاحظوا أنّ خطاب الاكتفاء الذاتي، الذي يوازي المديح الذاتي، لا يتماشى مع لغة الحقيقة التي تعوّدها المغاربة كلّهم من الملك محمد السادس، الذي كثيراً ما تميّزت خطاباته بنبرات قوية وانتقادية، حتّى إنّ بعض الإعلاميين اعتادوا كتابة أنّ الملك يحرّض على النقد والنقد الذاتي، وعدم الاسترخاء في سرير المُنجزات.
وفي مقابل ذلك، مال رئيس الحكومة أثناء الفترة الخاصة بالردّ على المعارضة إلى التعالي عما أتت به، وتوجّه بالانتقاد إلى تقرير إحدى مؤسّسات الحكامة، وهو المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي الذي يرأسه الوزير السابق أحمد رضا الشامي، وهو المجلس المنصوص عليه في الدستور (الفصـل 151 والفصـل 152)، وله دور استشاري، كما أنّ من حقه “أن يدلي برأيه في التوجهات العامة للاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة”. وفي سياق فهمه هذه المُهمّة، نشر المجلس تقريراً قاتماً، في تزامن واضح مع مثول رئيس الحكومة أمام البرلمان، ومُلخّصه أنّ “4.3 ملايين من الشباب البالغة أعمارهم ما بين 15 إلى 34 سنة عاطلون عن العمل”. ومنهم فئة خارج دائرة التلاميذ والطلبة والخاضعين للتكوين المهني، ما يجعلهم خارج الرادار الاجتماعي، ويشكّلون قنبلة لا أحد يُقدّر سُلَّم زلزالها (!)
كان المجلس نفسه قد سعى إلى توسيع صلاحياته في متابعة العمل الحكومي، فضمَّن ديباجة نظامه الداخلي مادة تقضي بأنّه “يسهر على تتبع مآل الآراء والتوصيات الصادرة عن المجلس، والتدابير المُتّخذة بشأن هذه الآراء والتوصيات من قبل الجهات المعنية بها”، وهو ما رفضته المحكمة الدستورية. بَيْد أنّ رئيس الحكومة، الذي فضّل أسلوب السجال المُتعالي مع أطراف من المعارضة، أبدى في المقابل انزعاجاً من تقرير هذا المجلس بخصوص الأرقام المُذهلة والمُرعبة، التي قدّمها، المُتعلّقة بفئة من الشباب المغربي توجد خارج دورة الحياة برمتها (!) وهو رقم ليس جديداً في الواقع، بل هو رقم يشطُّ عن الحصيلة المبتهجة والمكتفية بذاتها، كما قدّمها رئيس الحكومة.
ومن منظور كاتب هذه السطور، يتجاوز الأمر سجالاً بين رئيس الحكومة ورئيس المجلس الاجتماعي والاقتصادي إلى ما هو أبعد من سجال شخصي، أي يجاور ما هو أعمق، إذ يتعلّق الأمر بمواجهة تكتفي، الآن، بمسافة محدودة الإطار بين مؤسّسة أفرزها الاقتراع، هي الحكومة ورئاسة الحكومة، ومؤسّسة من مؤسّسات الحكامة، تخضع لقوّة التعيين، كما جرت دسترتها في المغرب، وهي هنا المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي. وقد سبق أن تفجّرت مواجهات بين هاتين الآليتين (آلية الانتخاب وآلية التعيين) أكثر من مرّة، بين الحكومة من جهة، ومن جهة أخرى، المجلس الأعلى للحسابات والمندوبية السامية للتخطيط، والمجلس الاجتماعي وبنك المغرب ومجلس المنافسة… إلى غير ذلك من المؤسّسات الشبيهة، وحدث ما زاد من حدّة المنافسات الصامتة، لأنّ بعض المؤسّسات كانت قاعدة لقرارات صاعقة للجسم السياسي المغربي، كما حدث عقب الزلزال الاجتماعي في الحسيمة في 2017، الذي نتج عنه إعفاء وزراء ومسؤولين عديدين، وطردهم من دائرة السلطة العمومية. وسبق أن وقعت المواجهة بين مؤسّسات مُنتخَبة وبين هاته المجالس (انظر مقال الكاتب “في الفساد والتضادّ بين الحكومة والحكامة بالمغرب”، “العربي الجديد”: 27 /6/ 2023)، ولم يجر فتح حوارات علنية، واستخلاص نتائج ملموسة من هذا النقاش، تفضي إلى تغيير في النصوص الدستورية، وتسلط أضواء جديدة على مناطق العتمة بين سلطة التعيين وسلطة الانتخاب.
ولا يقتصر الأمر فقط على نوع من الخصائص المميزة للطبقة السياسية في المغرب، وأسلوبها في إدارة الحوار، كلما تعلّق الأمر بسلطات التعيين، التي ترتبط بشكل كبير بسلطة الملك المغربي، بل فيها أيضاً جزء من التوتّر الذي تعرفه بنية القرار في الدولة المغربية. ومن المفارقات التي لا يمكن أن تخفيها النقاشات الدورية المحدودة، هو أنّ الطبقة السياسية برمّتها دفعت نحو “تثمين هذه الآلية (التعيين الفوقي)، التي ترتبط فلسفياً بمفهوم سلطوي للحكم، باسم مسلسل “الدمقرطة”، الذي رافق وضع دستور 2011، على حد تعبير الباحث والمفكر محمد الطوزي، وهو نفسه الذي شارك في صياغة الدستور الجديد، ينبهنا إلى أنّ إحدى أكبر القطائع التي جاء بها دستور 2011 هي مكانة السيادة، التي حسمت بطريقة واضحة، ومن دون أيّ إمكانية للتأويل، فالفصل الثاني من الدستور، الذي يلي تعريف الدولة، كما اختارها المغرب، ويسبق التنصيص على ديانتها، هذا الفصل ينصّ على أنّ “السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها”، وأنّها “تختار ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحرّ والنزيه والمنتظم”. ويرمي هذا التأكيد إلى تثبيت الملكية المغربية في دينامية الحداثة السياسية، وذلك بالتنصيص على الدور المحوري للانتخابات، التي ينصّ الدستور، في الفصل 11 منه، على أنّ “الانتخابات الحرّة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي”.
وينصّ الدستور نفسه، في الفصول من 161 إلى 170، على وجود مؤسّسات الحكامة (والمقصود بها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والوسيط، ومجلس الجالية المغربية بالخارج، والهيئة المُكلّفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، ومجلس المنافسة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي)، وهو بذلك يفتح الأبواب على مصراعيها من أجل أشكال أخرى من التمثيلية، والتي تَتَصادى مع النقاشات المتكررة في الديمقراطيات الغربية حول “أزمة التمثيلية”، التي قد تؤشّر على المُنعطف النيوليبرالي للدولة المغربية. وما يزيد من ضرورة حوار شفّاف وقوي، بشأن مضامين وغايات دستور لم يَستنفِد بعد كلّ احتياطيّه الإصلاحي، أنّ ممارسة “التعيين من فوق” ليست حكراً ملكياً “بل يمارس كذلك من مجموع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين حتّى ولو كان يكتسي أشكالا أخرى.. كما أنّ الهيئات العشر التي أنشأها الدستور لم تولد من تهيّؤات بعض الخبراء المجتمعين للنقاش، بل من الضغط القوي الذي أفرزته عمليات المشاورات التي كانت وراء صياغة الدستور.
وقد كانت اللازمة عند كل الشخصيات تقريباً التي استُمع إليها (جمعيات، نقابات، أحزاب سياسية، ممثلي الحركات الاجتماعية) هي “دسترة” هذه المجالس أو اللجان” (هناك حوالي 80 مجلساً أو لجنة كانت موضوع طلب، كما يتبين من الكرّاسة الميدانية لمحمد الطوزي، أثناء مشاركته في لجنة مراجعة الدستور)”، يضاف إلى ذلك أنّ لرئيس الحكومة، ولرئيسي الغرفتين في البرلمان باعتبارهما سلطتي انتخاب، الحقّ في تعيينات داخل هذه المنظومة، منظومة مؤسّسات الحكامة التي تتم بالتعيين فقط. ولعله سببٌ آخر لالتباس المُسايفة في الحلبة السياسية المغربية.
ويمكن أن نقرأ وجود مجالس الحكامة “باعتبارها تعايش إرادة صريحة في اتقاء المخاطرة الانتخابية ورفض السياسة كما تجسدها الأحزاب، أو كخوف من “ديكتاتورية الأغلبية” في أفق انتخابات نزيهة، في امتداد للانتقادات المعبر عنها ضد ديمقراطية حُرِّف مبدأ التمثيلية فيها. ولكن المفارقة تكمن في تثمين آلية ترتبط فلسفيا بمفهوم سلطوي للحكم…، باسم مسلسل للدمقرطة!”، كما كتب ذلك الجامعي محمد الطوزي، والباحثة بياتريس هيبو، في “الزمن السياسي، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي”. ولا يمكن أن تعفي الطبقة السياسية المغربية نفسها من هاته الملاحظة الصاعقة التي وردت في ختام الكتاب المذكور أعلاه، حول المعادلة (تعيين = انتخاب) ومفادها “في حالة المغرب، فإنّ هذه المفارقة تنزع نحو إعطاء دلالة جديدة، أقرب إلى الإمبراطورية منها إلى الدولة ـ الأمّة، لهذه التنظيمات، وذلك عبر تحيينها ودمجها في العقيدة الدولية الجديدة مع تزيينها بمحاسن الحكامة الرشيدة”.
ولقد سبق أن تقدّمت لجنة صياغة النموذج التنموي الجديد، التي أنشأها العاهل المغربي، بقراءة ما عن “العتمة” التي تلّف العلاقة بين مراكز القرار، على ضوء التغييرات الجارية في الدولة، ومنها أنّ القراءة المتأنية للدستور تبين وجود مناطق عتمة فيه، من نتائجها تغذية مخيال خصوصي للمغرب، “وهو الذي يحدّد بالفعل أشكال التملك من طرف الفاعلين السياسيين ويعطي في بعض الأحيان ذلك الانطباع بأن الدستور طموح جداً، وعليه فهو متقدم كثيراً بالنسبة للثقافة السياسية الجارية”. وفي الوضع الذي نحن فيه، نجد أنّ كلّ المقتضيات لفائدة التمثيلية الانتخابية “تُؤخذ بجدّية كبيرة وتحدّد الجزء الظاهر إعلامياً من الحياة السياسية، غير أنّ هاته القراءة تترك في الظلّ تصوراً آخر للتمثيلية، وهو تصور كبير الأهمية يعبِّر عن نفسه في ممارسة التعيين أكثر من تنظيم الانتخابات”.
وفي الخلاصة، نشير إلى منطق البحث عن التوازن بين القوّتيْن؛ التعيين والانتخاب، يقتضي أن تنتصر الأغلبية الحكومية لسلطة الانتخاب، وتتصرف على أساس أنّها ضامنة لقوة هاته السلطة المؤسساتية والمعنوية، وتدعم مقوماتها في كلّ هندسة تمثيلية، وهو ما لا يشكّل حقيقة واضحة، إذ تشتكي فرق المعارضة، اليسارية في أغلبها، من “تغوّل” حكومي، على حساب المعارضة داخل البرلمان، وحرمانها من حقوقها الدستورية، والعمل على تكريس وجودها خارج دوائر القرار، من القمّة البرلمانية إلى قاعدة الهيئات المُنتخبة جهوياً وإقليمياً ومحلياً. كما أنّ الأمر يقتضي أن تكون التشكيلة الحكومية قادرة على رفع التحدي، وهو أمر ما زال يتطلّب إثباته فعلياً، على اعتبار أنّ الفصل الثاني من مناسبة تقديم الحصيلة، والمتعلّق بالتعديل الحكومي، ما زال معلّقاً، ومرهوناً بالتوازنات الداخلية للأحزاب المُشكّلة الأغلبيةَ، وما تعرفه حياتها الداخلية من توتّرات لا تعطي صورة سليمة عن حامل السلطة الانتخابية.
يفوق الأمر التنشيط، سلباً أو إيجاباً، للحياة السياسية والإعلامية، إلى جوهر الديمقراطية وتوازن المؤسّسات، والقدرة على فتح سبيل جديد نحو الإصلاحات السياسية والمؤسّساتية، وأولها، الإصلاحات ذات الصلة بالانتخابات، باعتبار أنّها من آليات إنتاج الشرعية، وكذا آلية لعقلنة التعيين نفسه.