هل تضرب إيران أو لا تضرب؟ في المرات السابقة، لم تضرب أبدا. وبدل ذلك، كانت تكتفي بالوعيد: بالضرب في المكان والزمان المناسبين. تعبنا من سماع هذا الوعيد، ولم يحصل الضرب المباشر، في يوم من الأيام، باستثناء تحريك “أذرع” في المنطقة، لتولي توجيه ضربة هنا أو هناك. هذه كانت سياسة إيران المنتهجة منذ زمن. وقد اعتبرت سياستها هذه بمثابة جبن، من قبل بعض السذج من العرب، في مواجهة اسرائيل.
إن الذين ظلوا يحملون مناكفةً مزمنة لإيران، في مخططاتها الايديولوجية والمذهبية في جوارها العربي، لصالح اسرائيل في عنجهيتها الاستيطانية، كان لسان حالهم يقول، وبلغة شعبوية، للقادة الايرانيين: إذا كنتم “رجالا”، اضربوا اعداءكم الصهاينة أنتم بأنفسكم؟ لماذا تختبئون خلف لبنانيي حزب الله، وحوثيي اليمن، وحماسيي فلسطينين وجهادها؟
ولأن إيران “تشتغل” بالسياسة، فهي تعرف كيف تصرف قرارات الحرب والسلم: بأي قدر، بأية وسائل، في أي وقت، وفي أي ساحة. السياسة ليست “فتوة”. ولأنها كذلك، فهي ليست انتحارا بالنتيجة؟ إذا كان بإمكانها أن تحرك اذرعها بالمنطقة، التي تمولها، وتسلحها، وتهيء لها اللوجستيك، فلماذا تتولى الضرب هي بنفسها؟ وإذا كانت تعتمد على الوكلاء، الذين ينوبون عنها في تنفيذ سياساتها بالمنطقة، وينجحون في ذلك، أيما نجاح، بايلام الخصوم كما الأعداء، فلماذا تتبنى هي الرد؟
إن دفعها للرد الذاتي المباشر، تحت تأثير نعتها بالخوف والجبن، وبالتالي إثارة النخوة لديها، لا يستقيم وسياسة الصبر الاستراتيجي، الذي بات يعتمده القادة الايرانيون، من أجل ربح الوقت لصنع قنبلتهم الذرية الموعودة. إيران تدرك أن لا قبل لها بقوة اسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحده الأمريكية، بل والغرب كله. هل إيران تواجه اسرائيل وحدها، مع علم الجميع بالخط الجوي الذي لا ينقطع صبيبه، لنقل الأسلحة المتطورة والفتاكة إلى اسرائيل؟
لا أحد من العقلاء من يطالب إيران بضرب تل أبيب بنفسها. العاقل العربي ليس مع قيام حرب إقليمية، وإن بات يحرض عليها نتانياهو تحريضا. إن كان الاختيار فيها مطروحا، هذه الحرب ستكون عواقبها كارثية علينا -نحن العرب-، بحكم الوضع العربي (ومعه الإسلامي) المتضعضع إلى حد الهوان. فيما لو حدث الرد الإيراني، على ضرب قنصليتها في دمشق، بالقوة التي يطالب بها السذج، فقد يكون ذلك طريقا إلى اشعال المنطقة برمتها، وهو حاجة اسرائيلية، وفي الطليعة نتانياهو ومتطرفوه، أكثر مما هو حاجة إيرانية (عربية)، في الوقت الحالي.
نتانياهو عالق في رمال غزة، على الرغم من كل آلات القتل والدمار المسلطة على أهلنا في غزة، وفي الضفة ايضا. عالق حتى القاع، ولا يتطلب الأمر من العرب سوى إسناد الفلسطينيين بالاحتجاج في وجه البيت الأبيض، وليس بالسلاح كما يتوجسون؟ هل هذا كثير على العرب إزاء الفلسطينيين، وفي ماساتهم الجارية حالياً؟ وعالق، هذا النتنياهو، في الداخل الإسرائيليي، من جهة أخرى، بفعل الضغوط المتزايدة عليه من قبل أهالي الأسرى. وهو عالق، لأكثر من سبب، ولا يستطيع أن يخرج من الحرب، ولا يستطيع أن يستمر فيها، في ظل عدم تحقيق أي من أهدافها المعلنة.
إيران تنهج سياسة معينة، بتزعمها ما يسمى محور المقاومة. وبالمناسبة، فلا لوم على من يعارض هذا المحور، بدعوى التكلفة المادية والبشرية التي تؤديها شعوبه، جراء “تكتيكات” فصائله و”مغامراتها”.
ولكن، لحظة: ماذا فعل محور “الاعتدال”، الذي لم يستطع حتى فرض إدخال شاحنة مساعدات انسانية واحدة إلى غزة؟
نعم، لقد ضربت إيران. وفعلا، كانت ضربتها منسقة مع الامريكان. وإلى ذلك، كانت محسوبة بحسابات حفظ ماء الوجه. هي لم تحدث ضحايا أو دمارا، لكنها أحدثت تأثيرات ملموسة: أوقفت اسرائيل على “رجل واحدة” عدة أيام، أغلقت مطارات، حشدت سكانا في ملاجىء، عطلت مدارس، الخ.
والخلاصة أن الحرب طويلة، ولن تنتهي في جولة، مادام الصهاينة يمكرون، في تسوياتهم مع العرب، ويغمطون، ثم ينقلبون.
لقد وصلت الرسالة إلى الصهاينة. وصلت عبر الدرونات والصواريخ إلى أجواء فلسطين المحتلة، وإن أسقط العرب المجاورون معظمها فوق اراضيهم. أما اليوم، فالخبر، المتداول على وسائل الإعلام، هو: كابينيت الحرب الإسرائيلي المصغر قرر الامتناع عن الرد العسكري، وبالتالي قرر معه إيقاف هذه الجولة المتبادلة من الرشقات عند هذا الحد. وفي تبرير للقرار، قال القادة الإسرائيليون إن وراء ذلك تدخلا من الأمريكي جو بايدن، جرى عبر مكالمة مع النتنياهو. لا يهم. الأساسي، أن اسرائيل أحجمت.
ترى، لماذا يتدخل أكبر رئيس دولة في العالم لإيقاف الرد الإسرائيلي؟ هل هو خائف من إيران، التي لا تملك الإف 16 والإف 19 وغيرهما؟ الأجوبة في الحسابات السياسية والتوازنات الجيو- ستراتيجية التي تتحكم في قرارات الحرب والسلم. ماذا سنربح؟ وكيف نربح بأقل تكلفة؟ في تكتيكاتهم واستراتيجياتهم، هناك ألف صيغة للوصول إلى الأهداف، وربما بدون إطلاق رصاصة واحدة. إنهم لا يترددون في اللجوء إلى مثل هذه الصيغ، ولا يبالون بمن قد يصفهم بالجبن. أو لم تخرج الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، ومن العراق، وقبلهما من الفيتنام، حين تالمت، وحين أحست أن تكلفة الحرب صارت أكبر، مع أنها الدولة الكبرى التي لا ينبغي ان تهزم؟ الحرب ليست فتوة شوارع، أو مغامرة مراهقين. فقد تربح الحرب تكتيكيا، وبالمقابل تخسرها استراتيجيا. ألم يقلها وزير الدفاع الأمريكي اوستين لحلفاء بلاده الإسرائيلين، مؤخراً، حين اوغلوا في الدم الفلسطينيي، وولغوا فيه حد الثمالة؟
اما نحن، في ما لا نسميه لا سياسة، ولا استراتيجية، ولا هم يحزنون، فردة فعلنا ادعاء، ففتوة، ثم انتحار..
لسان حالهم يقول لنا: انتحروا وحدكم يا عرب، بجبنكم حيث ينبغي الإقدام، وبإقدامكم حيث ينبغي التروي، وبتفرق كلمتكم حيث ينبغي الاصطفاف، وبتغليب التكتيكي حيث ينبغي تقديم الاستراتيحي، .. والمأساة الكبرى، أن يرد عليهم واقع حالنا، ويعيد: ولكننا، لم نعش ولم ننتحر!!!
فعلا، لا نعيش ولا ننتحر..
حيث غزة تباد عن بكرة ابيها، ولم نستطع حتى أن نصرخ، حين صرخ القاصي والداني من غير العرب، في أوروبا وأمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا..
يا للهوان والعار !!!