الحريم الأجنبي في قصور السلاطين (اليزيد و أمّه الإيرلندية)

بقلم: عبد الدين حمروش

  • الأصل في النِّسبة:

ورد أن عليا بن زيد دخل على هشام، فقال له الأخير: “بلغني أنك تحدِّث نفسك بالخلافة، ولا تصلح لها لأنك ابن أَمَة”. من تبعات ما جرى من مُحادثة، حسب ما جاء في “العقد الفريد”، أن زيدا رد بكون النبي إسماعيل ابن أمَة، ثم خرج مُغضبا، إلى أن قُتل ثائرا على هشام في خراسان، بعد أن تأسى بالأبيات التالية:

شَرّدهُ الخوفُ وأزْرى بـــــه /// كذاك من يَكرهُ حرّ الجـــــِلاد

مُنخرق الخُفّيْن يشكو الوجى /// تَنكبُه أطرافُ مَرْو حــــــِـداد

قدْ كانَ في الموتِ له راحــةٌ /// والموتُ حَتْم في رِقابِ العـِباد

يسلِّم هشام بن عبد الملك بأن لا حقّ، بالنسبة إلى من كانت أمُّه أمَة، في الخلافة. هذا الكلام، المُسلَّم به من قِبَل الخليفة، أُشهِر في وجه زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أحد أشراف آل البيت القريبين، وواحد من حفدة سادة قريش الكبار. ومع انفتاح العرب على باقي الشعوب، بعد انتشار الإسلام وتوسُّعه، سيزداد “التهجين” العرقي ويتقوى، إلى أن يبلغ ذروته مع وصول العباسيين إلى الحكم. حينها، سيكون من النادر ألاّ نجد للخليفة قطرة من دم غير عربية. كما أن انفتاح الأمازيغ في المغرب الكبير على العرب من جهة، وانفتاحهم على شعوب جنوب أوروبا، في ما كان يسمى الأندلس، سينشأ عنه تهجين آخر، من جهة ثانية. من نتائجه، كانت ولادة الموريسكيين ووجودهم، في مختلف أفرع شجرة أنسابهم.

ومثل ما حدث مع العباسيين، فسيزداد الاختلاط المغربي مع غيرهم، منذ انطلاق حركة الجهاد البحري (بعد سقوط الأندلس تحديدا)، إضافة إلى التوسّع في إفريقيا السوداء جنوبا. بالنسبة إلى الحقبة السّعدية، يخبرنا دييغو طوريس، من خلال كتابه عن “تاريخ الشرفاء”، بأن إحدى زوجات محمد الشيخ المهدي (أي والد أحمد المنصور الذهبي) من أصل برتغالي، كانت تحمل اسم “مانسيا”. وإذا كان حديثًا توسُّع الاختلاط المغربي- الأوروبي، فإن الاختلاط المغربي- الإفريقي (الأسود) استمرّ قائما، بحكم عامل القرب الجغرافي، وإن وتيرته ازدادت مع حملات المنصور إلى إفريقيا جنوب الصحراء.

الحكاية التي حدثت بين هشام وزيد، خلال حكم العرب الأمويين، ستجدد مع حكم السعديين. الفارق بين الحكايتين، معاً، هو أن المتنازعين على الحكم، إبان العهد السعدي، كانا ينتميان إلى نفس الاسرة الحاكمة. فبعد وفاة المنصور، جوبِه محمد الشيخ المامون وأخوه أبو فارس، في إطار الصراع على الخلافة مع أخيهما نصف الشقيق المولى زيدان، من قِبَل الفقيهين قاضي الجماعة أبي القاسم بن أبي النعيم ومُفتيها أبي عبد الله محمد بن قاسم القصار، بكون أمهما “الخيزران” أمة، ومن ثم فلا أحقية لهما بأن يتقدما في الأمر على أولاد الحرائر (المولى زيدان). نهاية القصة معروفة، بعد أن آلت السلطة إلى أبي فارس، خلال مرحلة معينة من الصراع، وما تم تسليطه من انتقام على الفقيهين، بإرسالهما إلى السلطان من أجل البت في مصيرهما (القصّار مات في الطريق وأبو القاسم قُبِل العذر منه).

 

  • للمُصاهرة ديبلوماسيتُها:

كان من اللافت أن يضم حريم المولى إسماعيل، علاوة على الزوجات الروميات، اللائي أحصينا منهن أربعا في “الاستقصا”، زوجة وُصفت بالـ “كناوية” (هكذا!)، وهي والدة الأميريْن عبد الله والطيب. وإذا شئنا تصنيف شجرة زوجات المولى إسماعيل، سنجد أنها تقوم، حسب لائحة الضُّعيِّف الرباطي، على ما يلي: قبَلية (بالإحالة إلى اسم القبيلة أو المنطقة: شاوية، دكالية، سوسية، دليمية، أولاد سيدي عيسى، إلخ)، أو رومية (ويرادفها، أحيانا، وصف عَلْجة)، وكناوية في الأخير. يضاف إلى ذلك صنف “الشريفة”، بعد التوسع الحاصل في شجرة العلويين الحاكمين. والمثال على ذلك، في ما خص أحفاد المولى إسماعيل القريبين، اقتران السلطان سيدي محمد بن عبد الله من ابنة عمه فاطمة بنت سليمان.

إن صنف “العلجة” (Los Elche)، الذي يعود أصل الواحدة منه إلى القومية الأوروبية (المسيحية قل التحول إلى الإسلام بالنسبة إلى الغالبية)، سيتكرر في شجرة أنساب السلاطين، بالإحالة إلى مَحْتد أمّهاتهم. وقد يحمل وسم العلجة الدلالة على كون الأم من الإماء، دون أن يعني ذلك أن الإماء مقصورات على العلجات فقط، مادام أن من بينهن إفريقيات سوداوات (مثل والدة المولى إسماعيل نفسه). غير أن من العلوج، من ناحية أخرى، ما صار يطلق على “المملوك” من الأجانب، كما يوضح هذا ما جرى للوزير محمد بن العربي أفندي قادوس، حين امتحنه المولى اليزيد، فقال له: “أنا مملوك لك وعلْجك”. العلوج كانوا يشتغلون ضمن دائرة السلطان، ومنهم قواد كبار بالجيش، ووزراء ومستشارون.

عن العلْجات، يوجد نص، في غاية الوصف، عن طريقة جلب هؤلاء، ممن يتم “اقتناؤهن” وليس أسْرهن. ذلك أن في سفارة القائد محمد الزوين لدى إسطنبول، لحساب السلطان سيدي محمد بن عبد الله، حدث أن دخل إلى سوق هناك “وحين كان يشتري العلجات أتته امرأة لها علجة حسنة أرادت بيعها، فأقبلت بها على الزوين، وقالت له: يا مولاي، إن هذه الجارية أردت بيعَها، وهي تحفظ خمسة عشر طبعا من طبوع الآلة التركية، وتضرب الكمنجة”، فقال لها: “اتركيها عندي لأقلِّبها” فتركتها عنده (…) وفي يوم الاثنين الثاني من ذي القعدة خرج مولانا سليمان وأخيه والقائد عبد الله الرحماني لمراكش، وفيه خرج الزوين بثلاث جواري حسان حبشيات، وبهديته لمولانا اليزيد أيده الله. فلما وصل إليه ومعه الهدية ومعه الجواري، ففرح به”.

خارج نطاق الاقتناء والأسْر، هناك طريقة أخرى لجلب الأجنبيات، وهي التي كانت تحصل عبر المصاهرة. في تاريخ الأسرة العلوية، تقدمت محاولة للمصاهرة مع ملك فرنسا لويس الرابع عشر، عبر مبادرة المولى إسماعيل (الفاشلة) لخطبة ابنته ماري آن دو بوربون. في إطار هذا النمط من المصاهرة، ظل التركيز مُنصبا على تقوية العلاقات الديبلوماسية والعسكرية، بين البلديْن (المخطوب منه والمخطوب له)، أكثر من أي “مصلحة” آخر. أما من الأُسَر العربية الحاكمة، فيمكن الحديث عن مصاهرة المولى سليمان لسلطان طرابلس، عبر خطبة ابنة له. وبالعودة إلى “تاريخ الضعيف”، نطالع وصفا دقيقا لقدوم الأميرة الطرابلسية، التي كانت أختها في عصمة المولى اليزيد. من نص الوصف، نقتطف هذه الفقرة “وكان السلطان مولانا سليمان خطبها من أبيها، فركبت في البحر من طرابلس على يد سلطان طرابلس، ثم إن سلطان طرابلس وجه معها جارية بديعة في الحسن والجمال، ومعها جواري حسن (كذا) مغنيات يضربن الآلة، وجاءت معها عشرة من رياس طرابلس واثنين من فقهاء (طرابلس) أتيا ليعقدا عليها النكاح، نزلوا بالعرائش فوجه السلطان للعرائش مائة بغلة”.

غير أن في عهد حفيد المولى إسماعيل، ستجري مُصاهرة من نمط مُعاكس، عنوانها: مصاهرة السلطان سيدي محمد لسلطان مكة الشريف سرور، عبر إهداء كريمتيْه (حسب عبارة الرباطي)، الأولى إلى الوالد السلطان، والثانية إلى ابنه الأمير. وفي هذا، ننقل عن الناصري قوله: “كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله يحب الفخر، ويعنى به، وله رغبة في الخير وأهله (…) رغب السلطان في مصاهرته، وسمحت نفسه الشريفة ببذل كريمته”. وفي نص للرباطي، من جهة ثانية، هناك إشارة إلى أن الأمر كان متعلقا ببنتيْن وليست واحدة “أهدى له اثنتين من بناته، واحدة له والأخرى لولده، فتوفيت واحدة منهما بمكة، والأخرى شقيقة مولانا اليزيد، وهي للا حبيبة رَدَّها مولانا اليزيد للغرب، حين مات زوجها السلطان أسرور رحمه الله”.

 

  • شهرزاد “البرغازة”:

في ما له علاقة بالأمّهات من الإماء، يمكن الوقوف عند والدة السلطان اليزيد الإيرلندية شهرزاد (أو الكورسيكية الضاوية Davia Franceschini حسب رواية أخرى)، وهي عَلْجة (رومية) كما هو ثابت. والملاحظ أنه، إضافة إلى المولى اليزيد الذي خلف والده على العرش، كان لنفس الأم ولد آخر اسمه المولى سلامة، تنازع مع شقيقه المذكور، وبقية إخوانه من غير الأم، على خلافة والدهم.

تظهر شهرزاد على مسرح الأحداث في أكثر من وثيقة تاريخية. يمكن متابعة هذا الظهور على ثلاثة مستويات:

– الأول عابر، تجسد في الإحالة إلى الدار التي كانت تسكن فيها، سواء في فاس أم في مراكش. من ذلك، ما نجده لدى الرباطي في النصوص التالية:

أ- ” ويذهب لناحية أمه (سيدي محمد يقصد ابنه اليزيد)، ويسكن معها بدار الدبيبيغ”؛

ب- ” ووجههم لأمه بدار دبيبيغ، وكان السلطان (سيدي محمد) أخرجها من داره، وأنزلها بدار دبيبيغ”؛

ج- “وقصد دار أبيه (أي المولى اليزيد دار سيدي محمد)، فدخلها ونزل بالقبة الخضراء التي كانت لأمه شهرزاد في حياة أبيه”؛

د- “وتوفي (…) مولانا اليزيد (…) في القبة الخضراء التي ازداد فيها”؛

هـ – ” وأما مولاي الرشيد ابن سلاما (…) أمَرَه (أي السلطان المولى سليمان) أن يلتحق بأخيه جعفر عند جدتهما شهرزاد زوجة السلطان سيدي محمد”.

– الثاني موضوعي، له علاقة بالصراع على مِلكيّة الدار. ويمكن الحديث عن موضوعين اثنين، للأول علاقة بمِلْكيّة الدار (وغيرها)، وللثاني علاقة بالـ”الجوّ العائلي” بين الأم شهرزاد وابنيْها وحَفَدَتها. ومما له صلة بالموضوعي، يمكن تسجيل العناصر التالية:

أ- ” وكان السلطان (سيدي محمد) أخرجها من داره وأنزلها بدار دبيبيغ”؛

ب- ” وأمرها بالخروج (المولى سليمان) من دار أبيه، فطلبت معه الشريعة. فقالت: “اخرج منها لأن لك فيها ميراث وأنا اسكن في دار ولدي اليزيد رحمه الله، لأن لي فيها ميراث”، فخرجت وسكنت بدار ولدها، ثم بعد هذا كلف وعنّف عليها، وأمرها بالخروج لتافلالت، ووكل بها الودايا فنهبوا دارها (…)، وخرّجوها براسها وهي تبكي (…)، ثم خرّجها من دار الدبيبيغ”.

 

نلاحظ، بناء على مختلف الاقتباسات، أعلاه، أن موضوع الصراع تمحور حول الدار (الدبيبيغ). وفي علاقة الزوج/ السلطان إزاء زوجته (أمّ الأميرين)، بما له صلة بالسكن، أن سيدي محمد أخرج زوجته شهرزاد من دار (هل هي التي ازداد فيها ولداها اليزيد وسلامة، والتي وُصفت بذات القبة الخضراء بمراكش؟) إلى دار أخرى (نُسبت إلى الدبيبيغ في مرات عديدة). غير أن شهرزاد، في حال أخرى، ستصير موضوع تهجير من الدار الثانية (الدبيبيغ) إلى دار ثالثة (لم توصف ولم تُنسب)، باستثناء الإحالة إلى المدينة التي توجد بها، أي “صفرو” كما يُوضّح هذا قوله: ” وأسكنها بصفرو بعد أن احتوى على حليها وبغالها وعزائبها ووزّعها (…)، وفرّق ذلك على الودايا”. وبينما كان الوالد سيدي محمد هو العامل في التهجير الأول (من مراكش إلى فاس)، فإن الابن السلطان المولى سليمان هو الذي صار العامل في التهجير الثاني (من فاس إلى صفرو، ولو أن الوجهة المطلوبة كانت الخروج إلى تافيلالت).

هل انحسر الموضوع في ما له علاقة بالمِلكيّة (الدار، المال، الجواري، الحلي، إلخ) دون المُلك نفسه؟ يبدو أن المستهدف من نزع المِلكيّة، في المقام الأول، هو إضعاف موقف زوجة الأب، بحكم أن لها ابنا ثانيا (المولى سلامة)، أحد أطراف الصراع حول الخلافة بعد موت سيدي محمد، والذي ظل ينازع شرعية مُلك المولى سليمان (وبخاصة بعد وفاة شقيقه السلطان المولى اليزيد).

إن الاستبعاد الجغرافي (إلى صفرو ثم إلى تافيلات)، هو بمثابة استبعاد من نوع أخر عن السلطة. ولتحقيق الاستبعاد المأمول عن الحكم، تم استخدام جميع الوسائل (الإخراج من الدار، الإبعاد عن فاس، التجريد من المال وما شابه)، إلى حدّ “قطع المؤونة” (التجويع بالمعنى الحالي). باللجوء إلى التحليل المنطقي لمراكز الصراع حول السلطة، لم تكن الأم شهرزاد إلا المُستهدَف الظاهر، بناء على قراءة ما تسعف به الوثائق التاريخية، في طريق الوصول إلى المُستهدَف الرئيس (المولى سلامة أحد المتصارعين على كرسي العرش). في “تاريخ الضعيف الرباطي”، ما يكشف عن هذا المعطى، حيث يمكننا أن نقرأ:” وفي منتصف شهر شعبان، قطع مولانا سليمان المؤونة على أم مولانا سلامة وهي شهرزاد من أجل ولدها، ووبّخها وقال لها: “أنت برغازة”.

– الثالث، بما اشتمل عليه من وثائق، إنما يُعبِّر عن وضع إنساني معين. هذا الوضع، الذي كان مؤشر التغيير فيه الأول جغرافيا (من صفرو إلى فاس، فإلى تافيلالت)، تحول إلى وضع جديد، صار المؤشر فيه اجتماعيا (بفقدان المال والحلي، إلخ). هذا الانقلاب في الوضع، يمكن التعبير عنه بانتقال أحد الأطراف المتصارعة من مركز السلطة إلى هامشها. المؤشر البدئي في هذا الانتقال، كان بطله السلطان سيدي محمد، حين نقل زوجته شهرزاد من دار مراكش (ذات القبة الخضراء) إلى دار فاس (“الدبيبيغ” التي كان السلطان قد قضى فيها ستة أشهر في إحدى الزيارات). هل كان هذا المؤشر مؤشرا حقيقيا على بداية الانتقال الدراماتيكي الموصوف؟

في نص آخر، دال على أسلوب التأديب المُتّبع من سيدي محمد، في وجه من كان يريد الانتقام من نسائه، يتضح أن الترحيل القسري أو ” بالحيلة”، ظل في الواجهة. لنقرأ ما مارسه السلطان، بحق زوجته وابنة عمه، في هذا النص: ” وفيها رحّل السلطان زوجته وبنت عمه لالة فاطمة بنت سليمان من مراكش بحيلة، على أنها تذهب للشرق فتشفع فيها أهل مراكش، فأبى واعتذر بأنه أراد أن تتبرّك ببيت الله الحرام، فلما حملت ما عندها وخرجت، احتوى على ما عندها، وخرجت احتوى على ما عندها وبعثها لمكناسة، وبه توفيت بالغصة، وأخذ لها مالا عظيما”.

غير أن هناك ملاحظة فارقة، بالنسبة إلى أبعاد الترحيل، في علاقتها بأسلوب كل من الوالد سيدي محمد، والابن مولاي سليمان. ذلك أن في الترحيل الأول، كانت الغاية التأديب، عبر الضغط الاجتماعي، دون أن يتجاوز ذلك هذا المدى. أما في الترحيل الثاني، فقد كان التأديب وسيلة، للإقصاء من التطلع إلى السلطة، أو حتى التفكير فيها. وقد نجح المولى سليمان في تحقيق غايته هاته، حين نطالع رسالة الإيرلندية شهرزاد إلى ولدها المولى سلامة. هنا، ما جاء في معظم نصها، كما نطالعه ه لدى الرباطي في تاريخه:

” الحمد لله وكفى. إلى ولدي مولاي سلامة، سلام عليك بألف سلام (…). أولاد أخيك أرادوا القدوم لعندك، يجلسون معك حتى يفرج الله. والله يرضي عليك يا ولدي، إذا قدموا لعندك افرح بهم وارفد بقلوبهم، ولا تحافيهم بأبيهم. كان أحمق، وقليل العرف، وقليل المحبة في والديه. وانت، والله يرضي عليك، يا ولدي، اتهلاّ فيهم واحضن عليهم، واجعلهم من جملة أولادك، الله يرضي عليك يا ولدي (…) أقدم لعندي، واجمع أولاد أخيك ونجلس في فاس الجديد انحرث وناكل بلا فقسا، ابلا جميل حد علينا. حتى يكون وقت الحاج ونمشو القبر سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما أولاد أخيك ابقاو من ليلتهم بلا عشا. ونزلت لعندهم، جمعت شملهم حتى تقدم، واجمع أولاد أخيك، والله يرضي عليك. والسلام. انتهى”.

 

  • حَجَّاج المغرب:

    يتقدم المولى اليزيد إلى المشهد “أبيض، طويل القد، حسن الصورة، حسن الوجه، أقنى الأنف، أكحل العينين، بياضهما إلى الصفرة”. في هذه العبارة، لخص الرباطي المظهر الخارجي للأمير. ليس في الأوصاف المعروضة، ولو في واحد منها، ما يمكن أن يشين الصورة المثالية للمظهر الخارجي للرجل. غير أن ما ينبغي الالتفات إليه، هو أن ليس هناك ما يجمعه بوالدته، في ملامحها الأوروبية باعتبارها رومية علجة. يمكن أن يكون البياض علامة، وبخاصة إذا افترضنا أن الجد المولى إسماعيل كان أسمر، من مُنطلق كون أمه “جارية سودانية”.

علاوة على ذلك، فالتقديم المثالي لليزيد، على مستوى التمظهر الجسماني المادي، سيترافق مع تقديم آخر معنوي. التدقيق السالف، على الرغم من قِصَر العبارة فيه، أحاط بكل الأوصاف المطلوبة. وكان بالإمكان أن يؤول الوصف إلى زراية، لو طال التدقيق أكثر من اللازم، باعتبار أن التركيز المبالغ فيه على “الرجل”، قد يشينه. ولذلك، سنجد أن المتابعة الوافية ظلت مسلطة على الجوانب المعنوية لليزيد. ومثلما عملنا في السابق، يمكن استجماع مختلف الصفات المذكورة، عبر اقتطاع العبارات الواردة فيها، وتسجيلها موزعة على النحو الآتي:

  • الجود:

– كان “جوادا كريما (…) لا يبالي بالمال، يعطي العطاء الكثير”؛

ب- المهابة والخشية منه:

– كان “مُهابا”؛

– ” ولحق خبر هزيمة هشام لقبائل الحوز ولأهل دكالة وعبدة واحمر وزرارة والشبانات، فسقط جنين كل حاملة من نسائهم”؛

ج- الشجاعة والإقدام:

– كان “شجاعا لا يبالي”؛

– “وفي ربيع الثاني، قدم مولانا عبد السلام ولد السلطان سيدي محمد رحمه الله من الحج على فاس، ثم خرج وقدم على أخيه السلطان مولانا اليزيد نصره الله، وهو بالرباط، فاغتاظ عليه السلطان من أجل شقيقه مولانا هشام، فأخذ يعتذر له بلين ولطافة بأن قال: ” الله ينصرك ثلاث مرات، إن أخي هشاما لا يقدر عليك في الحرب”؛

– ” وقال له قاسم المذكور: ” نخرجوا إليه فنضرب عليه بالليل”، فقال له السلطان نصره الله: ” لست بسارق حتى نطرقهم بالليل، وإنما أخرج لهم نهارا وهم ينظرونني وأنا أنظرهم”؛

– ” وكان الذي قبضه أخوه مولانا عبد الرحمن، وكان يريد موت مولانا اليزيد، لأنه كان أشجع منه”؛

د – القطع مع سيرة والده، والانقلاب عليه:

– “لا يعرف إلا كلمة واحدة، وليس كأبيه. فإن كنتم تهدون لأبيه هدية، فاهدوا له هديتين، وابعثوا له بمال أبيه، إلى غير ذلك”؛

– “انقلب على عمّال أبيه بالقتل، وقال: ” لا خير في رجل يصطاد بسلاق (؟؟) أبيه”؛

– ” زينوا له مع السابق ذكرهم الخروج على والده”؛

– ” وصار يكتب للسلطان بمقالات لا تصدر عن العقلاء”؛

– ” وخطبوا به شهرا” (المقصود اليزيد)؛

– ” فلزموه، وحسنوا له الاستبداد على والده، والخروج على والده”؛

– ” فلما وصل إليهم استفزوه بقولهم، وحركوا منه ما كان ساكنا، واستخرجوا ما كان كامنا، فبايعوه وخطبوا به”؛

– ” وفي ذي الحجة، عظم صيت مولانا اليزيد، وصار يكتب للقبائل، وأصحاب والده يكتبون له، ويعلموه بخبر والده”؛

– ” ثم وجّه مولاي هشام لطنجة يحرسها من اليزيد”،

– ” فصعد المنبر، وخطب بهم (اجبالة والريف)، وادعى أنه محمد المهدي”

هـ – البطش والنّهب:

– ” وقصد مراكش فصدوه عنها، ونازلها بالجيوش للحصار، حتى دخلها عنوة، فقتل ونهب، وسمل الأعين بالنار، واستلّ ألسن، وأخرج الموتى من القبور، وحرقهم وذبح وسلخ وقتل النساء والصبيان والضعفاء، وفعل ما لم يفعله حجّاج العراق”؛

– ” وضُرب (الحزّان دْبيل)، وضربت أولاده بالصوط، لأنه كان صاحب أبيه”؛

– ” اتصل بفرع “أيت د راسن” من “كروان” الذين زينوا له (…) اقتحام بيت المال بقبّة الخياطين بالقوة”؛

– ” ولما بلغوا مكة، وجدوا بها المولى يزيد في انتظارهم (…) فرصدهم في وقت القيلولة، ودخل في أصحابه دار بن يحيى الذي عنده المال، فنهب ما قدر عليه”؛

– ” وفي يوم السبت الثاني من شعبان المذكور، أمر مولانا اليزيد نصره الله بنهب ملاح تطاون (…)، وفسقوا في نساء اليهود، فتكوا ختام أبكارهم (…)، وغلطوا في بعض ديار المسلمين المجاورين لهم”.

هـ – المكر:

– ” ففرح به، وقال له (السلطان اليزيد للقائد محمد بن العربي أفندي قادوس): “كيف كنت تخدم مع أبي، فاخدم معي”، فقال له: “السمع والطاعة”. والسلطان يريد مكره ولم يشعر بذلك”؛

– ” (…) أراد السلطان أن يمكر به، ويعجل بقتله، أعطاه خمسة آلاف مثقال، وقال له: “اصنع بها العرس لأولادك بمكناسة (…)”.

يطرح الأمير اليزيد، ومن بعدُ السلطان، أكثر من سؤال في موضوع تقييم شخصيته تاريخيا. فمن خلال المصادر، التي تناولت عهدي الوالد والولد، على حد سواء، إضافة إلى صراع الأمير مع إخوته على العرش، يظهر للباحث أن هناك حدين متناقضين في التقييم. وإن كان اليزيد لا يخرج عن إطار شخصية الحاكم العربي، المعروفة بالشجاعة التي تصل درجة القسوة والبطش بالأعداء، والجود الذي يصل إلى درجة “تتريك” المقربين، إلا أن اليزيد تميز بالجرأة على والده السلطان، في محاولاته المتكررة للانقلاب عليه.

وفي مسعى لقراءة التناقض الحاصل، في شخصية الأمير الذي خَلَف والده، مُدة سنتين اثنتين فقط، ذهب المؤرخ الكنسوسي إلى أن ذلك ناتج عن اختلاطه بجماعة من الأغمار “كان المولى يزيد هذا عند والده رحمه الله بعين العناية ملحوظا، ومن النقائص محروسا ومحفوظا، وكانت عامة أهل المغرب وخاصتهم من الجند والرعية متشوفين له ومغتبطين به، يهتفون باسمه ويلهجون بذكره (…) حتى خالطته جماعة من الأغمار”. على المستوى العميق، توافق مظهر اليزيد مع مخبره في المرحلة الأولى. غير أن مخبره سيتخلف عن مظهره في المرحلة الثانية، بفعل علوق الأمير في صحبة الأغمار الذين ” حسّنوا له الاستبداد على والده، والخروج عليه” كما مرّ بنا.

  • الأمير العاقّ:

لم يكن قد تبقّى له سوى “مُوزونة” واحدة، قبل أن يصله موت والده. في ضريح مولاي عبد السلام بنمشيش، وهو مُعتصِم بجبل العَلَم، حينئذ، نزلت عليه الموت كملاك خلاص ورحمة، مع أن الفقيد لم يكن إلا والده نفسه. هل من عبارة أخرى، كانت أكثر دلالة في التعبير عن انفراج الموقف لديه، كما نقلها الضُّعيِّف الرباطي في مُصنَّفه، مثل هذه: “الله أكبر. والله ما عندي موزونة. وما النصر إلا من عند الله”. من سخرية القدر، أن السلطان الوالد، الذي كان مُصابا بالحمى، توفي في الطريق من الجنوب إلى الشمال، على أمل إيقاف ابنه عند حده، بعد أن أعيتْه كل محاولات ردعه وإصلاحه، من دون أي جدوى.

السلطان الذي أجلى البرتغاليين عن أكثر من مدينة، ومن ضمنها “المهدومة” التي صارت “جديدة”، وقف عاجزا أمام وضع نهاية لخروج ابنه عليه، في غير ما مرة. مَن أدراهم علما، وأبعدهم حكمة، وأكفؤهم خبرة، من معظم سلاطين المغرب الكبار، سيحكي المؤرخ الرباطي عن قلة حيلة سيدي محمد بن عبد الله، إزاء ابنه الأمير المولى اليزيد: “ولما سمع بولده أنه دخل الغرب اشتد قلقه وارتكبه الوسواس، وكره كل من كان معه من الجُلاّس”. لم يتوقف السلطان عن إيفاد المبعوثين إليه، من مُستشاريه وكُتابه الخاصين، في انتظار ثنْي ابنه عن مناوراته، التي ظل ينسق خلالها مع القبائل المناوئة، ومع قواد جيش العبيد الثائرين، المتبقين من زمن المولى إسماعيل، إلا أن كل مساعيه تلك كان الفشل حليفَها المحتوم.

هل كان اليزيد عاقّا لوالده؟ الجواب لا يحتاج إلى قراءة أو تأويل، مادامت الوثائق التاريخية قد حفظت لنا موقف الوالدين: سيدي محمد الوالد وشهرزاد الولدة. كانت لهجة الأم، في رسالتها إلى ابنها سلامة، غير قوية إزاء ابنها اليزيد، بحيث لم تصل إلى اتهامه بالعقوق (حرفيّا). ومع ذلك، ففي طيات كلماتها (من تحت السطور)، يمكن استجلاء موقف الأم السلبي تجاه ابنها، حين وصفته بـ “قليل المحبة في والديه”. أما بالنسبة إلى لهجة الوالد، التي حمل إلينا “الجيش العرمرم” صداها، فقد كانت قوية ومباشرة أعلن عنها السلطان العلوي، على رؤوس الأشهاد، في أكثر المواقع الإسلامية تقديسا عند المغاربة: 1- بيت الله الحرام 2- الحجرة النبوية 3- بيت المقدس 4- ضريح المولى علي الشريف 5- ضريح المولى إدريس بفاس 6- ضريح المولى إدريس الأكبر. وفي السياق هذا، كانت رسالته إلى السلطان العثماني، التي كتبها “يخبره بسخطه (على ولده)، وسوء فعله، وأوصاه ألا يقبله إذا قدم”.

وبالموازاة مع هذه الرسالة، يمكن تسجيل الرسالة الأخرى الأقوى إلى سلطان مكة، التي انقلب فيها السلطان على عاطفته الأبوية، بعكس ما كانت ردود فعله السابقة واللاحقة مع ابنه الأمير. وشدة لهجة الرسالة لم يسلم منها حتى الحاكم سرور نفسه. نص الرسالة، لأهميته البالغة، نثبته كاملا بالاعتماد على ترجمانة الزياني الكبرى: ” وكأنه أعجبك فعله، واستحسنت ضلاله وجهله، ووسعك ما اجترأ عليه في حرم الله من نهب أموال الله، للمعينين من أهل بيت رسول الله، فما عذرك بين يدي الله ولو وقع ذلك من ولدك، ما وسعك إهماله والإعراض عنه، ولولا ما بيننا وبينكم من ثمرة القرابة النبوية، والعثرة المصطفوية، لكنتَ تؤدي ذلك من مالك شرعا وعرفا، وإلا فما ثمرة ولايتك حتى يقع هذا في حرم الله الذي من دخله كان آمنا؟ فكيف يأمن الضعيف والعاجز، وهذا يقع للقوي والقادر، فلا حول ولا قوة إلا بالله. والسلام عليكم ورحمة الله”.

ومع ذلك، فما أشبه بسيدي محمد، في موقف الضعف إزاء الابن، السلطان العظيم أحمد المنصور الذهبي. السلطانان، معاً، العلوي والسعدي، خلّفا بطولات من مجد وفخار، يُذكران بها على سائر الأزمان. غير أنهما كانا، مع ذلك، رهيني عاطفتهما الأبوية القاتلة. فالسعدي، وإن عقد البيعة لابنه محمد الشيخ (الملقب بالمامون)، لم يستطع درء طموحاته الانقلابية، التي كان الابتزاز فيها قد بلغ مدى، حيت ذهب إلى التهديد باللجوء إلى الاستعانة بالأتراك على الحدود. ونظرا لتوجُّسه من حُكام الجوار، الذين ظلوا يتحينون الفرصة، تلو الأخرى، للتسرب إلى الداخل المغربي، فقد كان المنصور لا يتردد في التوسّل إلى ابنه، مُغريا إياه بالولاية على درعة وسجلماسة، والتنازل له على خراجهما. لم يكن الشيخ إلا عاقا لوالده، خارجا عن سلطته، ميالا إلى كل ما يشين سلطانه، وولاية عهده الموثر بها دون إخوته، إلى درجة أن وصفه مؤلِّف “نزهة الحاذي” بالـ “فويسق الذي كان “مولعا بالعبث بالصبيان، مُدمنا للخمر، غير مُكثرت لأمور الدين”.

حين طلب المنصور المشورة في أمر ولي عهده، الذي لم يكن يُرضي صديقا ولا عدوا، أشار عليه الباشا عبد العزيز بن سعيد الوزكيتي بقتله. غير أن السلطان اختار، تحت طائل الضعف الأبوي، التضييق على ابنه، من خلال حبسه في سجن مكناسة. هذا أقصى ما وصلته عقوبة السلطان لولي عهده. أما رد فعل سيدي محمد على المولى اليزيد، بعد الفتنة التي حصلت له مع أخويه مولاي علي ومولاي عبد الرحمن، بوسط فاس الجديد، والتي راح ضحيتها عدد كبير من أصحابهما، فلم تخرج عن إطار التهديد، ثم العفو عنه بعد أن استشفع له بعض من رجالات دولة أبيه. غير أنه سيعود إلى القبض عليه، بعد التآمر الحاصل منه مع العبيد، ومن بعد قطع الأكل عنه نحو اليوم أو اليومين، ثم العفو عنه في الأخير. ردة فعل سيدي محمد المهادنة، على الرغم من تكرر محاولات ابنه التآمرية، لا علاقة لها بردة فعل جده المولى إسماعيل على خروج محمد العالم عن سلطته، التي بلغت حد قطع أطرافه، إلى أن وافته منيّته في الطريق أسيرا.

إن المقارنة بين مُحرِّر الجديدة وبطل “وادي المخازن”، وبالمقابل بين الأميرين اليزيد ومحمد الشيخ، جديرة بالانتباه والتحليل والاستنتاج. ذلك أن قوة عاطفة الأبوة، التي غدت نقطة ضعف “استراتيجية” في العلاقة، في مقابل سطوة البنوة المتمثلة في التآمر على الحكم، إلى درجة التهديد بالتنسيق مع الأتراك العثمانيين، شكلت القاسم المشترك بين الابنين الأميرين. وزيادة على ذلك، فإن هناك عنصرا آخر، لا ينبغي إغفاله في ما نحن فيه من موضوع. إنه “الأم”، التي عُدّت ضمن الجواري، بالنسبة إلى كل واحد من الأميرين. غير أن أم اليزيد “شهرزاد”، إذا أضيف إلى كونها جارية، فهي أجنبية من إيرلندا أيضا.

تبدو العلاقة بالأم، من جهة الأميرين، كانت ذات قوة. أما الحديث عن طبيعتها، فقد قرئت من موقع الضعف بالنسبة إلى علاقة الأمير السعدي بوالدته الخيزرانة”، كما أشرنا إلى ذلك في البداية، أي في سياق ما كان قد استدعي من رد فعل الأميرين الشقيقين، محمد الشيخ وأبي فارس، على رأي الفقيهين في أمر الخلافة. بعد وفاة السلطان المنصور، ستستخدم جميع الأسلحة، بما فيها موقع الأم، وحظوتها لدى السلطان. غير أن الإيرلندية شهرزاد، لم يتقدم حضورها إلى مسرح الأحداث، بناء على ما جادت به بعض الوثائق التاريخية، إلا بعد تولي المولى سليمان الحكم. الصراع على خلافة سيدي محمد بين أولاده، وبعد أن رفض إيثار أي واحد من الستة عشر بولاية العهد، “هروبا بنفسه لساحل السلامة”، على حد تعبير ما ورد في شهادة التبرؤ من عهدة التولية.

 

  • الأمير الأسطورة:

    أرّخ الفقيه سيدي سليمان الحوات الفاسي موت السلطان الوالد بقوله:

مات أميرُ عصرنا مُحمّد /// وقد كفى الله اليزيدَ شَرّه

وإنْ تُردْ تاريخه فإنّــــــه /// قد قدّس الله العزيزُ سِرّه

قرئ رثاء الشاعر الحوّات، من قِبَل أبي القاسم الزياني، على أنه وصف سقيم عليل، بحكم قرن الشر بالسلطان. وبالنظر إلى عودة الكنسوسي المستمرة إلى كتابات الزياني، ومراجعته لها في عدد من المواقف، فقد اعترض على قراءته السلبية للبيت الأول، زاعما كون سَلَفه ” أجنبيا من مقاصد علماء البديع والبيان”، ما أدى به إلى أن يعتبر البيت “حسن إلى الغاية”. وقد فسّر غاية الحسن فيه من خلال تعليقه التالي، الذي يمكن اعتباره، هو الآخر، في غاية من الذكاء. قال الكنسوسي مُعلِّقا على الزياني: ” وظن أن الشرّ المذكور مناط بجانب السلطان وليس كذلك، فإنما هو متعلق بجناب مولاي اليزيد، الذي يقع به، وينزل عليه”.

وإن اختلف المؤرخان في قراءة البيت، إلا أنهما تبنّيا الموقف السلبي ذاته من حكم اليزيد. وقد جعل الكنسوسي عنوان الحديث عن عهد الأمير، الذي عاد سلطانا بعد وفاة والده، على نحو التعبير الآتي: ” الراية الزرقاء الكسيفة المنظر، الكريهة المخبر، راية مولانا اليزيد بن مولانا عبد الله بن إسماعيل”. علاقة الكنسوسي بالمولى سليمان، خلف المولى اليزيد، ظاهرة المحبة والإيثار. غير أن علاقة الزياني بالسلطان الوالد، سيدي محمد، كانت الأقوى والأمثل، ومعها علاقته بالمولى سليمان أيضا، في مقابل علاقته السيئة مع المولى اليزيد. لقد قالها الأمير، يوما، حين كتب في رسالة إلى عبد الله بن علي: ” لا يستقيمُ لي معه أمر”. وفي مناسبة أخرى، وهو عائد من الحج إلى البلاد، قال لشيخ الركب والأشراف عن الزياني أيضا: ” لا يدل السلطان إلا على السوء، ولا يخيط بخيط أبيض”. ولقد وصل الأمر بالسلطان الجديد، المولى اليزيد، إلى أن أطلق عليه النار، كما جاء في وصف الرباطي التالي: ” وفي هذا اليوم، أراد السلطان أن يمكر بكاتب أبيه (محمد بن قاسم الزياني) خرّج فيه كابوسا فبخش، ولم يخرج، ثم أمر بضربه حتى (تهرست) سبابته، وتقفه ونهبه وبعث لداره لفاس، فانتهبت”.

تحتاج علاقة المستشارين والوزراء، وكل ما له صلة بالبلاط الملكي ومحيطه، بشخص السلطان نفسه، دراسة وبحث. ويمكن اعتبار علاقة الزياني بالسلاطين الثلاثة، الوالد ووولديْه العقِبيْن، خير نموذج للتحليل. ولقد استحضر الزياني، في هذا السياق، بعد تجربة طويلة في خدمة السلاطين، ما قاله له والده، مُعتبرا ببيتين للحسن اليوسي:

لا تقربنّ مالكا ولا تلوذ بـــه /// ولو تنل عنده عزا مكـــــــينا

يستخدمونك في لذات أنفسهم /// فيذهب العمر لا دنيا ولا دينا

إنها الخلاصة ذاتها، التي تتقاطع مع ما انتهى إليه أبو عبد الله الأزرق، في صور من الحكمة المجربة، أيضا، في كتابه “بدائع السلك في طبائع الملك”، حين قال: ” وإذا قرّبك السلطان، فكن منه على (مثل) حدّ السنان. وإن استرسل إليك، فلا تأمن انقلابه عليك”.

على الرغم من مختلف الصور السلبية، التي رُسمت للمولى اليزيد، كانت هناك صور إيجابية عن عهده. وإن كانت مدة حكمه قصرة، فقد خلّف آثارا عدة بالرباط، التي كان يتهيأ لأن يجعلها مقرّه وعاصمة ملكه. وقد قال فيه الشاعر قاسم بن عبد الله العابد الحسني في صغره:

ولما رأيت الشمس قد عمم نفعُها /// وإبصارُها بين الأنام مديدُ

سألتُها هل في جنة الخلد أنشئت /// ونور سناها من هناك يزيدُ

فقالت أما تدري بأنني خــــــادم /// لنجل إمام المسلمين يزيـــدُ

الأبيات قيلت عن اليزيد في مرحلته الأولى، التي أثنى عليها مؤرخو الدولة ومستشارو والده وقوّاده. ومن علامات هذه المرحلة المضيئة، في مرحلة لاحقة، أن قام السلطان فـ ” ولاّه الكلام مع قنصوات الأجناس الذين بالمراسي”، كما نقل لنا الكنسوسي. هل هذا هو كل ما في الأمر؟  لا، كان أكثر منه. كانت هناك أسطورة تنهض من بين الوقائع والأحداث. اسطورة أمير، حُكي عن كرمه وشجاعته وإقدامه. وقد حصل التركيز على قيمة الجرأة والإقدام فيه، حتى وهو ينسق مع خصوم والده من قواد الجيش، من أجل الإطاحة به. وقد اعتمد في بناء هذه الأسطورة على خلفية دينية، عبر التناص مع بعض شخصياتها ونصوصها ووقائعها. ويمكن رصد صور “أسطرة” المولى اليزيد في ما يلي:

– صورة الرسول: وقد تمّ التركيز فيها على استدعاء آثار أقدامه، التي انطبعت على صخرة بيت المقدس، ليلة إعراجه إلى السماء. وفي تناص مع هذه الصورة، هناك صورة آثار صفائح الفرس، الذي كان يركبه الأمير في محاربة أخيه المولى هشام، على الحجر الصلد. ولتعزيز الأسطرة وتفخيمها، أضاف الرباطي: ” ولازال ذلك الأثر إلى الآن”؛

– صورة محمد الفاتح: وفي خلفيتها، هناك الحديث النبوي الذي أثنى فيه الرسول على فاتح القسطنطينية، من خلال قوله: ” لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”. ما علاقة هذا باليزيد؟ في نص آخر لنفس المؤرخ السابق في “تاريخه”، نقلا عن بعض الكُهّان المتمردين، الذين كانوا يقولون له: ” أنت الذي تأخذ سبتة بدليل قول سيدي عبد الرحمن المجذوب، نفع الله به، أنه قال فيك كيت وكيت”. رؤيا نبي، مؤيد برسالة وكتاب، تحولت إلى رؤيا “مجذوب”. كما أن القسطنطينية تحولت إلى سبتة، في حين تحول محمد الفاتح إلى اليزيد. وإن كان الرباطي يورد صورة السلطان، من قِبل من نعَتهم بالمتفرقين من الكهان المتمردين، في إطار سياق من الطعن في حقيقتها، إلا أن تلك الصورة المزعومة كانت منتشرة في ذلك الحين. ولذلك، حدث توجّه اليزيد إلى الجهاد في سبتة، استكمالا لمحاولات والده وجده من أجل تحريرها، إلى أن تخلى عن حصارها، كانت بدافع من هذا الادعاء المزعوم؛

– صورة الصحابي عليّ وبطولاته: من خلالها، كانت ترتسم صورة السلطان الشجاع المقدام وهو يكر على خصومه في ساحة المعركة، غير مبال بأهوالها. إن مشاهد الحرب، التي خاضها اليزيد ضد أخيه هشام، المتنازع معه على الحكم، خرجت إلى المبالغة، بل وإلى الخرافة. ولولا أن الحرب كانت تجري بالمكحلة والبارود، وغيرهما مما كان يستعمل في حروب ما بعد السيوف والرماح، لكنا بصدد صورة علي بن أبي طالب، وهو يهجم على كفار قريش وأضرابهم، فيصرعهم صرعا. من سمات صورة اليزيد، التي تتناص مع صورة علي، وبالأخص تلك التي زادت فيها المخيلة الشعبية درجات، يمكن أن نستشهد بالنص الآتي:

” فكان بينهما حرب يذوب له الحديد، ويشيب منه الوليد بين هشام وأخيه اليزيد. وكان لمولانا اليزيد نحو العشرة من البغال زوازل، وعلى ظهورهم الأنفاض تترعد كأنها زلازيل، وكان الطبجية يجعلون فيها الرصاص والكور الصغير، ويخرجونها في الجيش، فترى الناس صرعى من ذلك. وكان السلطان إذا كرّ على المخالفين في كل كرة يقتل نحو الأربعة، يضرب بالمكحلة، ويخرج اثنين من الكوابيس غرناوط، ويضرب بالبطغان بعد البارود، وشاهدوه ضرب الرجل في وسطه بالسيف، فسقط نصفه، وبقي النصف على الفرس و(الفرس) غائر بالنصف المذكور”.

   

  • هذا قبر السلطان المولى يزيد:

رؤيا المجذوب المنقولة، عن تحرير اليزيد لسبتة، إعلاء لحتمية سلطانه وقدسيته، باعتباره مبعوثا من قوة عليا، كانت تقابلها رؤيا أخرى مُنافسة: رؤيا الزياني المنامية، مستشار سيدي محمد بن عبد الله وكاتبُه، بشأن تولية المولى سليمان، على حساب المولى يزيد خصمه. يروي الزياني رؤياه المنامية، في كتابه “البستان الظريف”. ذلك أنه، حين كان برفقة السلطان في سجلماسة، استُدعي إلى مراكش لمُقابلته، فما كان منه إلا أن خاطبه السلطان بهذا الكلام: “هؤلاء أولادي أتعبوني، وكنت أرجو أن يكون لي مُعينا منهم على أمور الخلق، فما حصلت منهم على طائل، فما عندك؟ فقلت له: يطيل الله عمر سيدنا، ويبقيه للمسلمين، فاين سيدنا سليمان؟ (…) فقال لي بهذه العبارة: ” عافاك، ما قلت إلا الحق، اكتب بيعته (…)، وانتبهت. فلما أصبح، قصصت عليه الرؤيا، فضحك وقال: – هذا شيء لا يكون”.

ظل سيدي محمد عند كلمته، إذ لم يعين أحدا من أولاده لخلافته. غير أن اليزيد تمكن من خلافة والده، على الرغم من أنه لم يكن أكبر إخوته. وبخلاف إخوته، من أبناء فاطمة بنت سليمان بن المولى إسماعيل، مثلا، التي كانت “علوية شريفة”، لم تكن أمه إلا علجة رومية. والسبب في خلافته تلك، حرصه على اعتلاء العرش، والإقدام في ذلك للوصول إليه. ومع ذلك، فإن مدة حكمه لم تكن طويلة، إذ لم تتعد السنتين. لقد كُتب عليه أن يموت نتيجة إفراطه في الشجاعة، بطلقة من أحد رماة قبيلة احمر، المنضوين في جيش أخيه المولى هشام عصرئذ.

“توفي المولى اليزيد ليلة الخميس، الثالث والعشرين ن جمادى الثانية، من السنة السادسة بعد المائتين، رحمه الله، قبل طلوع الفجر بثلاثة سوائع في القبة الخضراء”. واستكمالا لصورة اليزيد، في شقه الأول المضيء، حكي الرباطي على ذمته: “فدخل عليه (أي وصيفه الغازي بن سلامة)، فرأى عليه من الحسن ما لا يصاف، وعلى خديه أقرونفلة، وظن أنه نائم، فناداه: ” يا سيدي، يا سيدي”. بعد ذلك، دُفن السلطان العلوي، المولى اليزيد، بإزاء المولى عبد الله السعدي (في مقبرة الملوك السعديين)، وكُتب على قبره: ” هذا قبر السلطان مولانا اليزيد، الذي حرّك الغرب بخمسة آلاف ونصف، وهزم أخاه مولانا هشام (بأربع وأربعين ألف). والبقاء لله تعالى”.

كان على المغاربة انتظار ولادة المولى عبد العزيز سنة 1880، وهو السلطان العلوي الثامن عشر في ترتيب الأسرة. جاء من والده السلطان المولى الحسن الأول، وأمه الشركسية لالة رُقيّة. في صلته بالمولى يزيد، أكثر من سبب وشَبَه. غير ان حضور الأم الشركسية، بمساعدة الوصي على العرش، الصدر الأعظم بّا حماد، كان أكثر فاعلية في مجرى الأحداث المغربية. في عهد سلطانه، الذي بدأ سنة 1894، وانتهى سنة 1908، كانت ترتسم معالم مغرب آخر: مغرب الحماية الفرنسية.