“لذلك، سيدي العزيز، لم أجد لك نصيحة إلا تلك: تعمّق في ذاتك، وابحث في أعماقها التي تنبع منها حياتك، ففي نبعها ستجد الإجابة عن السؤال ما إذا كان عليك أن تبدع. خذها كما تبدو، من دون تأويل. ربما يتضِّح عندها أنك خُلقت لتكون فنانا…ستجد حياتك على أيّ حال من تلك اللحظة طُرقا خاصة بها، وأتمنى، أكثر ممّا يمكنني قولُه، أن تكون تلك الطُّرق جيِّدة وغنيّة ورحبة”.
تبدو كلمة “نصيحة”، في رسالة ماريا راينر ريلكه، ثقيلة في سياقها التوجيهي الواضح ذاك. هل هناك توجيهات جاهزة، يمكن “تلقينها” في مجال الإبداع؟! هل يصير “تعليم” الإبداع نظير “تعليم” السياقة مثلا؟! وعلى الرغم من كونها صادرة عن شاعر ألمانيا الأكبر، في العصر الحديث، إلا أن وطأة “التوجيه” لا قِبَل لأحد بتحمُّلها، مهما علا كعْبُه في ميدان الإبداع، حتى ولو كان ريلكه نفسه. ومع ذلك، هل كانت رسائل الأخير توجيهية صرف بالمعنى الذي قرّرناه؟
إن خوض مُغامرة الإبداع القاسية، وما تستلزمه من انخراط جواني، بشكل فردي، غير قابلة للنسخ بتاتا. وبصيغة أخرى، فإن مُكابدة تبعات الإبداع، في أي مجال، على سبيل التمثيل، تميل إلى أن تكون شبيهة بمكابدة الألم، والموت بوصفه حالة قصوى. من شأن أي مُبدع “حقيقي”، وبخاصة إن تقدَّم في سُلَّم الإبداع، أن يأنف من الاضطلاع بتغطية دور المُوجِّه (التربوي) الناصح، لأيّ كان. ولذلك، من البدهي أن تظهر رسائل ريلكه “مدرسية”، إن قرئت على أساس أنها “توجيهات”، من مُبدع مُتمرس إلى مُبدع ناشىء.
قد تكون قراءة الرسائل، من جهة كونها كاشفة عن تجربة “المصدر”، وهو، هنا، ريلكه وإبداعه، أعظم فائدة من قيمة تأثيرها على المتلقي، في صورة توجيهات إلى المُرسل إليه، وهو الضابط الشاب في هذه الحالة. فهل بهذا، وحده، يمكن تفسير شهرة الرسائل؟
في بداية الثمانينات، من القرن السابق، وفي لقاء مفتوح مع الكاتب الفرونكفوني، صاحب “صندوق العجائب”، أحمد الصفريوي، أصررت على أن أُمِدّه بنصوص شعرية لي. ماذا كنت أنتظر من الصفريوي، وأنا دون العشرين عامئذ، بعد أن يعود إلى محل سكناه في مدينته، ليوافيني به بريدُه؟ أن يقول لي: أنت شاعر، أو أي عبارة تطرية، مما يُقال في هذا السياق للمبتدئين، على سبيل نوع من الترضية، تحت ستار التشجيع؟ مازلت أحتفظ برسالة الصفوريري، إلى اليوم، بظرفها الأبيض، وبالخطاب داخلها مخطوطا بقلم مغربي أسود.
إذاً، ماذا كان تأثير الصفريوي على شاعر ناشىء، كنتُه (وما أزال)؟ الجواب، يمكن الإحالة فيه إلى رسالة ريلكه الجوهرية: التعمُّق في الذات، والبحث في أعماقها. بالإضافة إلى كونها جوهرية، فهي بسيطة وبدهية، ليست بـ “الشيء” المستور، تحت حُجُب الصياغة اللغوية وفدلكاتها، حتى نحتاج إلى من يَدلنا إلى الخبيء فيها. أن تبدع، في أي مجال رمزي، من المُحال ألا تستبطن دخيلتك؟ كيف تكتب، بعد ذلك، بدون الارتداد إلى أعماقك؟ لغتك، النافذة والناجزة في ذهنك وأسلوبك، هي أعماقك بالتأكيد. هل نصادر، بهذه الخلاصة، على ما هو بدهي قائم؟
ومع هذا، نتساءل: لماذا لا ننجح في استبطان دواخلنا، دوما، أثناء الكتابة؟ أو بالأحرى، لماذا يكون هذا الاستبطان ضعيفا، عابرا، بسيطا، شكليا أو برّانيّا؟ هل نخشى تأدية تكلفة الاستبطان، باعتبار الأخير نظيرا لتجربة التغرب والتشرد والتوحد، نظيرا لمكابدة الإحساس الفرداني بالألم- الموت، كما حصل لعدد من المبدعين والفنانين، الذين ألقت بهم استبطاناتهم العالية إلى مهاوي الهلاك؟
لنجيب عن حاجة ذاتية داخلية، مُنتجة بصور إبداعية أصيلة مُلهِمة، يظل العامل الحاسم مُمثلا في الاستبطان الشاق والخالص، الذي يخوض غماره كل مبدع (أصيل جدير بصفة المبدع). أن نبدع، وأن نقرأ ما نُنتج، يستلزم الأمر استبطانا مُزدوجا. ولعلنا كثيرا ما كنا نقول إن الذات، باعتبارها الفردي، هي القارىء الأول لذاتها، قبل الحديث عن أي نمط آخر من القراء. القارىء/ الذات هو المركز، بينما القراء الآخرون مجرد محيط دائر في فلكه.
أن نقرأ ذواتنا المبدِعة، في سياق من الانقطاع عن تأثير الآخر، وما قد يزرعه في طريقك من ورود، قد تكون طبيعية وقد تكون وهمية، هو المطلوب بالضرورة. وبعبارة أخرى، أن نكون ذواتنا المُطابقة، كما نتمثّلها، خلال لحظات الإبداع الجارية، في حالة من الزهد التام. أن نكتب ذواتنا ولذواتنا. أن نكون لها القارئ الأول والرئيس. ألم يقولوا، بصياغات نظرية مختلفة، إن القارىء الأول والأصيل للمبدع، هو المبدع/ الفنان نفسُه؟
إن التطابق، في صورة المرآة العاكسة- المُنعكسة، بمثابة ملاذ للاحتماء من الاستنساخ المكرور المُزيف. حتى وإن كنا نتّجه بإبداعنا إلى الآخر، فإن الطريق السالكة إليه، تبدأ أول خطوة نرسمها في الطريق من الذات (إلى الذات نفسها). أن نكتب ذواتنا لذواتنا، بما يجعلنا قارئين أصيلين لها، لا ينفي أن نكتب لقراء مُحتملين خارجها، في الوقت ذاته. وفي المقابل، حين نتوجه بالكتابة إلى الآخر، في المقام الأول، هل نكتب (بالتّبع) ذواتنا، وإلى ذواتنا (أصالة عنها)؟
لا اقرأ بيت عروة بن الورد إلا بمعنى ما يفترضه السياق، أي سياق ما أنا فيه الآن:
أقسِّمُ جسمي في جسوم كثيرة /// وأحسو قَراح الماءِ والماءُ باردُ
الشاعر يوزِّع جسمه بين جسوم أخرى (والمقصود بها أقواته حسب الشرّاح). التقسيم، في البيت، له بُعد اجتماعي. أما في سياق المنحى الإبداعي، فالتقسيم لا يكاد يبتعد عن إطار الذات المُبدعة، من منطلق أن هذه الأخيرة تُجرِّد من نفسها أكثر من ذات (مُبدعة وقارئة على سبيل تبادل الأدوار). هذه الوظيفة التبادلية، بين مُختلف هذه الأطراف، في علاقتها بموضوع الإبداع، تأخذ شكلا من الاستبطان المُتعدد.
هل قرأت رسالة الصفريوي، باعتبارها برنامجا يجب الاهتداء ببنوده؟ ما من شيء يحمي المبدع غير تطابقه مع ذاته، أي أصالته وصدقه والتزامه. فما دمنا في مجتمع (أدبي بالتخصيص)، بات فيه الزيف والاستنساخ والبوز، هي العملات الرائجة، فإن لا سبيل للهروب الآمن والمُثمر، خارج إطار التجربة الأصيلة المُتطابقة. هل قادتك تلك الملاحظات السافرة، التي تعقبت نصوصك الشعرية (التفعيلية)، في مرحلة من مسيرتك الشعرية، مثلا، إلى أن تكون نثريا أكثر من بودلير، أو الماغوط في سياق شعريتنا العربية؟ أو تكون حداثيا أكثر مما يستلزمه سياقك التربوي والاجتماعي والثقافي؟
هل نستطيع أن نكون غير ذواتنا (مُفتعلين بكسر العين وفتحها)؟ أن نكون في غير سياقنا؟ في غير لحظتنا؟ أن نكون مُلهَمين (بفتح الهاء)، بأكثر من بُعد، حيث نسبق زمننا؟ ما معنى الإلهام في وقتنا الحالي؟ ما معنى الأصالة؟ هل من دُخل للتجربة في الموضوع: التجربة الغنية على حد ما اختزله ريلكه، مرة أخرى، في عبارته التالية: “من أجل قصيدة واحدة، عليك أن ترى مُدنا عديدة، بشرا وأشياء كثيرة. عليك أن تفهم الحيوانات، أن تحس كيف تحلِّق الطيور، وأن تعرف الإيماءة التي للأزهار عندما تتفتح في الصباح…”. وإذا كان هذا البرنامج مطلوبا من الشاعر إنجازه، ليكتب قصيدة واحدة، فهل كان تحققه، بصورة عالية من التمام، كافيا لمعظم الناس ليصيروا شعراء (مبدعين بصفة عامة)؟
هل من “أهمية” للـ”مكابدة” الاستبطانية، حتى يخرج الإبداع أصيلا، حارا، غنيا وصافيا؟ قُرىء شرط المكابدة على أنه وقود فعّال، من منظور تقييمات نفسية كثيرة، ومن واقع حياة عدد هائل من المبدعين والفنانين، الذين قضوا دون الخمسين، وقد سقطوا في مهاوي تجاربهم الإبداعية الزلقة والخطرة. قريبا من زمننا، وفي سياقنا العربي النازف، يمكن الانتباه إلى ما قاله الناقد الروائي المصري، سيد البحراوي، الذي كابد آلام السرطان، في كتابه “في مديح الألم”، بهذا الخصوص: “مثل كل البشر، عانيت في حياتي مختلف أنواع الألم، لكنني لم أنتبه إلى أهميته على المستوى الذهني”. ومع ذلك، فكل البشر الذين عانوا (ويعانون) مختلف أنواع الألم، بحسب خلاصة البحراوي، فإن هؤلاء البشر جميعَهم لم يخلفوا لنا إبداعا، وإن كنا لا نستطيع أن ننكر فرضية تأثير الألم على حالتهم الذهنية (على الأقل في مستوى القوة).
وعلى الرغم مما قدّمت وسُقت، آنف من ربط الإبداع بشرط المعاناة والمكابدة ضرورة. وإذ حصل الاقتران بـ “الكذب” (الذي لا يعني التخييل بالضرورة)، لدى بعض، و”الاقتصاد”، لدى بعض آخر، بإمكاني أن أجنح إلى الأخذ بمقولة الصدق (الذي ليس له صلة بالبُعد الأخلاقي- الديني كما تُنوول بالضرورة أيضا). هذه المواقف النقدية، التي أسفرت عنها اتجاهات النقد العربي قديما، يمكن أن تكون منطلقا وأساسا للتقييم والمقارنة. أن تعيش تجربة صادقة، بأفراحها وأحزانها، كيفما كانت فقيرة أم غنية. الفيصل في ما تسفر عنه، في عمقه وأصالته وجدته، عائد إلى الصدق (في التجربة والفن على حد سواء). هذا الذي يُجنب التكرار والاستنساخ. لا ضير في أن تكون التجربة مُتواضعة، في منجزاتها الفنية والجمالية، لكن أن تكون أصيلة مُطابقة أفضل من أن تكون مُجترّة ومُستنسخة.
ما المطلوب؟ ما البرنامج؟ أن تكون أنت، في حالات وحدتك وعريك ويتمك، في غير سربك وجماعتك وقبيلتك إن اقتضى الحال، لصالح فرادتك الإبداعية وأصالتها؟!!! أعتقد ذلك، وبصيغة ما عبّر عنه طرفة، وإن في سياق مُختلف:
إلى أن تحامتني العشيرة كلُّها// وأُفردتُ إفراد البعير المُعبّد
هل عدنا، من جديد، إلى رسالة ريلكه المدرسية؟!!!
- ها قد عُدنا.