“لو لم تكن اسرائيل موجودة، لاخترعناها”، هذه العبارة جاءت على لسان الرئيس الأمريكي جو بايدن. قالها قبل عدة عقود خلت، ثم أعاد استحضارها، بسبب العدوان البربري الجاري على غزة، خلال الأيام الأخيرة. بعكس ما يقوله منطوق الجزء الأول من العبارة، فإن الجزء الثاني، وعلى كره من الرئيس، يفصح عن ان اسرائيل لم تتعد، في يوم من الايام، كونها دولة مصطنعة، لصالح شتات اليهود من مختلف بقاع العالم.
إقامة كيان اسرائيل فعليا، بتأثير أحداث ما بعد الحرب النازية، كان حاجة غربية بالدرجة الأولى. التكفير عن جرائم النازية، التي وقعت في اوروبا، عد واحدا من بواعث نشأة الكيان. غير ان السبب الرئيس خلف تلك النشأة، وحسب ما تكشف عنه عبارة بايدن، كان اصطناع “دولة”، على النمط الغربي، في الشرق الاوسط العربي. ولعل هذا ما يفسر تداعي الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن معظم دول أوروبا، إلى نجدة اسرائيل، بعد طوفان السابع من أكتوبر.
على الارض، ومنذ سنوات، كان هناك تحول جذري يجري عن كثب في اسرائيل. الدولة المفترضة، على النمط الغربي، في الديمقراطية وحقوق الانسان، باتت تترك مكانها للمتطرفين، المسكونين بالقصص التلمودية وخرافاتها. وبدلا من إنشاء دولة حديثة في الشرق العربي، كما أرادها الغرب الأمريكي- الأوروبي، بات الواقع يكشف عن تطور متسارع لظهور دولة متخلفة، لا تختلف عن دول الشرق الاوسط نفسها (كما يزعم جزء من الغرب نفسه). المؤسسون العلمانيون لدولة الكيان، في بداياتها الاولى، أخذوا يتركون مكانهم للحاخامات وقادة المستوطنين، من أمثال سموريتش وبن غفير. ولعل هذا واحد من بين الأسباب، وراء الاحتجاجات المتكررة للإدارة الأمريكية الحالية على سياسات نتانياهو، والتي تمثل هدفها الرئيس في القضاء على ما ظل يعبر عنه عادة بحلم الدولتين. في تحالفه مع اليمين الديني المتطرف، ومبالغة منه في الإحساس بالنجاح في تطويع الفلسطينيين، عبر القمع والاعتقال والاستيطان، كانت صدمة السابع من أكتوبر قوية على نتانياهو وحلفائه.
ما من شك في ان مستقبل نتانياهو انتهى، ومعه انتهت سياساته في رفض الحوار مع الشريك الفلسطيني، وبالتالي حق هذا الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. الرضوخ إلى المفاوضات مع حماس أخيرا، من اجل إطلاق سراح بعض الأسرى، إعلان عن الفشل العسكري لجيش الدفاع الصهيوني. من المؤكد ان التكلفة الإنسانية والمادية على سكان القطاع باتت فادحة جدا. غير ان اسرائيل، بالمقابل، لم تنجز شيئا على الارض حتى الان، بعد أكثر من عشرين يوما من التوغل البري. ولذلك، لا يجوز لنا ان نخفي بأن ما بعد السابع من أكتوبر لن يكون مثل السابق عليه ابدا. الأحداث الجارية اليوم، في إطار صمود المقاومة وحاضنتها الشعبية، تبين استحالة القضاء على الحلم الفلسطيني، الذي غدا تحققه أقرب من حبل الوريد الآن.