بقلم د. يوسف شهاب*
يمتاز المواطن المغربي في علاقته و تعريفه للدولة بعدة تناقضات وصور نمطية تارة يستغيث بها وبدراعها لحمايته من الآفات والمخاطر ، تارة يستنجد بها للحصول على حقوقه او رفع الظلم عليه، تارة يمجدها لكونها الاسمنت الذي يجمع كيان البلاد من التفكك ،و تارة يهاجمها لكونها تحتكر قانونيا العنف الشرعي وتارة ينتقدها بشدة لكونها ، في وقت مضى ، كانت تنتهك الحريات و حقوق الانسان، و تارة يتمرد عليها ويشرعن الانفصال السياسي او الثقافي .. فكيف يمكن في هذه المتناقضات ايجاد تعريف وسطي، حضاري وسياسي لمفهوم الدولة والتي التصق اسمها بصورة نمطية غامضة اصطلح عليها بدولة المخزن او بالدولة العميقة .
من جهة أخرى هناك خلط كبير في ذهنية المواطن المغربي بين الادارة و الدولة و الحكومة .. هل توظفه التيارات السياسية إما لتاجيج الشعب ضد حكامه او عن جهل للمفهوم السياسي للمخزن قياسا بالجذور التاريخية و الانتروبولوجية لهذا المصطلح الذي ظهر في القرن التاسع عشر والذي كرسه الإستعمار ومآسسه كل من افقير والبصري كجهاز استخباراتي لقمع كل اشكال المعارضة السياسية ابان ما عرف بسنوات الرصاص، حيث كان المواطن المغربي يضع في خانة واحدة النظام السياسي، الدولة، الادارة والحكومة دون التمييز بين هذه المكونات الظرفية لمفهوم الدولة انذاك.
في كثير من الدول الكبرى ، تبنى القيم والحريات وأشكال التكافل والتوازن الترابي على قوة العمود الفقري للدولة والذي يتجلى في تحديد مربع وصلاحية الدولة ويختلف هذا التصنيف السيميولوجي بين امريكا، المانيا، اسبانيا، و فرنسا مع الرغم انها تعد من كبريات الديمقراطيات . فمنها من قلصت مفهوم الدولة الى ما يخص السيادة بالمفهوم الاممي ، ومنها من اضعفت المركزية وزادت من قوة الجهويات المختلفة الأشكال، ومنها من وضعت الدولة في الخانة الفيدرالية حيث جعلت الاقليم دولة داخل الدولة ومنها من اعطى للدولة المركزية الشرعية الكبيرة لممارسة سيادة الشعب كما هو الحال في فرنسا والتي ترتكز الدولة على مفهوم الدولة اليعقوبية خاصة مع الجمهورية الخامسة بقيادة الجنرال ديغول.
مفهوم الدولة في المغرب بعيد نسبيا عن هذه النمادج وتطور عبر التاريخ انطلاقا من بناء العلاقة العضوية بين النظام، “الضوابط والمتحركات” من عقيدته السياسية الدولة، الادارة والحكومة وحديثا مع الوحدات الترابية. تم بناء الهرم السياسي والمؤسساتي على ضابط الشرعية حيث ان المغرب قد بنى على تسلسل السلاطين الذين يستمدون شرعيتهم من البيعة ولم يخضعو لتعيين او انتخاب .ومن هنا كانت الدولة في صلب الملكية والعكس صحيح ،وكل اخلال بهذا التنظيم ادى دائما الى الفوضى (السيبة) او الاستعمار. بمعنى اخر، ارتبطت الملكية بالدولة وليس بالحكومة او الادارة، وهذا هو ما كرس مفهوم المخزن تاريخيا .
في عهد الحماية كانت هناك ازدواجية في تسيير المغرب حيث كانت الملكية حاكمة شرعية وكانت فرنسا تجسد الدولة والحكومة، ثم في السنوات الاولى من الاستقلال كان هناك ملك ولم تكن هناك دولة. وجاء الملك الراحل الحسن الثاني لبناء الدولة المغربية ولكن لم تكن هناك ادارة ممغربة ولم تكن هناك حكومة دستوريا قائمة ولم تكن خريطة ترابية غير ممركزة. وجاء محمد السادس وكرس دستور 2011 وافراز حكومة سياسية وإدارة غير ممركزة ورسم معالم الجهوية الموسعة ذهبت الى حدود الحكم الذاتي تحت السيادة المركزية كما هو الشأن عند فرنسا في علاقتها باقاليمها ما وراء البحار .
ان قراءة وتحليل الدستور المغربي وهيكلة الحكامة الترابية وهندسة الادارة العمومية تعطي اشارات واضحة للتقليل من التصور الذهني لمفهوم المخزن المتقادم الذي لم يعد كما كان ذلك الرسم العنكبوتي وتلك الفزاعة التي تفرض هيبة الدولة وضرورة قوتها .
ان الدولة هي جهاز اداري وبناء قانوني يكرس سيادة البلد داخليا وخارجيا تستمد شرعيتها من كونها غير مرتبطة بطبيعة النظام السياسي للبلد او الخيار الايديولوجي ومن حيث كونها من الشعب وفي خدمة الشعب والملك والوطن، لا تخضع الدولة لدوالب الاحزاب ومخرجات الانتخابات. الدولة مفهوم يتجاوز الزمان والمكان والخريطة السياسية ولكن تخضع لٱليات الحياد، الرقابة وتسهر على احترام الدستور والمؤسسات . فممثل الدولة يبقى بعيدا عن التشريع او التخطيط او التوجه السياسي. وبالتالي فان الدولة تعمل على السهر على تطبيق القانون ،على الامن الداخلي وحماية البلد وترسيخ سيادته على المستوى الدولي .
كما ان رجل الدولة لا ينتخب ،يعين ويقال وخاضع لواجب التحفظ ولا تربطه مصالح او مواقف بالاحزاب، برجال الدين او بالاوساط الاقتصادية .اما الادارة فهي الابن البكر للدولة وامتدادا لها على باقي التراب الوطني . يمكن للإدارة تطوير شراكات مع الوحدات الترابية او المجمعات الاقتصادية وباقي الميادين المدينة باستثناء المربعات السيادية.
اما فيما يتعلق بالحكومة فرغم التشابك بين الدولة والادارة والحكومة ،فهذه الاخيرة يتم انتخابها او تعيينها لتنزيل برامج حددها رأس الدولة وخاضعة للبرلمان ومحدودة الأجل عكس الدولة التي تتسم بالاستمرارية .
وبصفة عامة تبقى الحكومة والادارة تحت مراقبة الدولة والقضاء والمصالح الحساسة المتعلقة بأمن الدولة ، بالخارجية ، بالدفاع الوطني و بالامن الروحي للبلاد.
اما الدولة في انظمة مثل فرنسا او المغرب ،فتبقى فوق الرهانات السياسية او الصراعات المصغرة وتاخد تعليماتها من حاكم البلاد. اي بخلاصة ان النظام والدولة هما توابث والباقي متحركات خاضعة للمحاسبة والمساءلة.
لا كيان لبلد بدون دولة قوية. ولا نجاعة لإدارة بدون دولة يعقوبية ولا استمرار لحكومة بدون درع تقنوقراطي يحل محل الفراغ في حالة ضعف الحكومة. لا استقرار امني ، سوسيو اقتصادي او روحي بدون دولة ذات هبة ونجاعة لتدبير ترابها ورعاياها .
ان المغرب يتجه باتجاه الديمقراطية ودولة الحق والقانون والمؤسسات. ولكن لن يتم هذا بدون تقوية وهيبة الدولة لترسيخ هذه المفاهيم المجردة .
ان حماية المغرب من خطر الارهاب ، الانفصال ، الاختراقات، الأوبئة او من الازمات الاقتصادية في سياق العولمة لا يمكن ادراكه بدون دولة قوية ذات هبة داخليا او لا ثم خارجيا لردع الاخطار.
ان عصر التصور الذهني للدولة عبر مفهوم المخزن قد انتهى وتقادم وحل محله مفهوم جديد للدولة مبني على هبة الدولة ونجاعتها.
* دكتور وأستاذ العلوم الجيوستراتيجية، والتنمية الدولية، بجامعة الصربون بفرنسا