عندما زُلزلت أرض المغرب و أخرجت المكبوت التاريخي‮ ‬مع فرنسا (بقلم الكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري)

صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “عندما زُلزلت أرض المغرب وأخرجت المكبوت التاريخي‮ ‬مع فرنسا”. و نظرا لأهمية المقال في فهم الهجمة الإعلامية الفرنسية الممنهجة ضد رموز المملكة، نعيد نشره بالكامل.

عادت السردية التاريخية إلى مرافقة العلاقة بين المغرب وفرنسا، بالقرب من أنقاض الزلزال الذي ضرب إقليم الحوز. وتبيّن أنّ تحليلها على ضوء التفاعلات الجيوسياسية سيكون ناقصا إذا لم يستحضر المكبوت التاريخي، والذي كان من بين المضمرات والبَواطن التي حفرتها الهزّات الزلزالية التي ضربت منطقة الحوز (وسط) ليلة 8 سبتمبر/ أيلول الجاري.

بدأ كل شيء عندما توجه الرئيس الفرنسي إلىتويتر/ إكسغداة الزلزال، معلنا عن استعداد فرنسا الفوري للتدخّل إنسانيا في الكارثة، ثم حديثه عنأهبةالمستعمِر السابق للتدخّلفي الثانية ذاتهاللمحاولة. واتّضح أن الاختلاف بينه وبين رؤساء دول، من قبيل الرئيسين الصيني والأميركي، يقف عند الأسلوب والوسيلة، حيث اعتمد غيرُه الرسائل الدبلوماسية والتعازي المتعارف عليها دوليا أو فيديوهات لحظية، مقابل سلوكه فيتويتر الذي تعدّ رسائله غير ذات عنوان محدّد.

اختار، في المرّة الثانية، السمعي البصري للتعبير عن موقفه، عبْر فيديو قدَّم فيه دعمه للشعب المغربي، مباشرة، ثم دعمه لمزدوجي الجنسية، مغاربة وفرنسيين، متحدّثا عن مضمون هذه المساعدات بالقول: “قمنا بما يجب. وفي الثانية نكون جاهزين للتدخّل، مكتفيا بالحديث عنالسلطاتالمغربية في دور تنسيق المجهودات.

وفي غياب ردّ مغربي، تحكّمت فيه اعتبارات العمل الميداني والإنقاذ في عين المكان باستعجالية، سارعت وسائل الإعلام إلى مهاجمة النظام والعاهل المغربيين مباشرة، وانطلقت حملة، استعملت فيها كل الأجناس الصحافية، من الريبورتاج إلى الكاريكاتير، مرورا بالبرامج الحوارية، رأى فيها الرأي العام المغربي هدفين: تقديم الصمت المغربي، باعتباره لامبالاة رسمية إزاء الوفيات، ورفض المساعدات الفرنسية، مرادفا للتخلّي عن الضحايا تحت رحمة الزلزال، بل ذهبت يومية ليبراسيون إلى حد تصدير عددها لليوم التالي بصورة لسيدة مكلومة بعنوان مستفزّأنقدونا نحن نموت بصمت، وهو الأمر الذي بدا جارحا ومستفزّا، بل وَمدبَّرا قبل المعرفة الدقيقة بمجريات الفاجعة، وترصيد بنك المعلومات الخاص بها. وفي بند الهجوم المشخصن على ملك البلاد، أصدرت اليومية نفسها كاريكاتير للعاهل المغربي فوق عرش ضرب الزلزال الأرض التي يقوم عليها! وعزّزت أسبوعية شارلي إيبدو التي سبق أن تضامن معها المغاربة بشكل واسع عند الهجوم الإرهابي عليها هذا المنحى المستفز بـصورة كاريكاتيريةتهاجم محمد السادس شخصيا، وترسم كتلة من الدولارات فوق الضحايا وأجسادهم الدامية. الهدف الثاني المضمر هو في تقديم فرنسا الإنسانية المستعدة دوما والأكثر حرصا على الشعب المغربي، من دون تجاوب السلطات المغربية، وَعاهُ المغاربة باعتبارهتأليبًاضد النظام، في محاولة تقديمه نظاما يسعى إلى توطيد سيادته في معالجة آثار فاجعة الزلزال على حساب الضحايا، وتبرير سلوك فرنسا بأنها ليست في حاجة ماسّة إلى السلطات، العاجزة واللامبالية!

وقد بات واضحا لدى النخبة والشعب في المغرب أن المضمون السياسي الكاشف عن المنهج المتأزّم بين البلدين هو الذي يتحكّم في السلوك الفرنسي. وهو ما جعل الرأي العام المغربي يرى في سلوك الرئيس وطاقمه، بقايا نزوعات استعلائية، وميلا استعماريا في العلاقة مع المغرب، فكان أن سارعت المنابر المغربية وأصوات سياسية كثيرة، بما في ذلك داخل أوساط المعارضة، إلى اعتبار الركوب الفرنسي على الزلزال، في هذه المرحلة من العلاقة، إلى موقفٍ غير متّزن ومحكومٍ بخلفيات غير سليمة، بتحميل المغرب الخجل الأخلاقي إزاء مواطنيه الضحايا، قبل أنْ يطلع نهار الفاجعة، ثم أنالخرجاتالمتسارعة للرئيس الفرنسي جرى تأويلها عن حقّ (كما ستبين التطوّرات) أنها محاولة التصرف مباشرة، قبل ان يحدّد المغرب حاجياته، بدون تردّد من السلطة المغربية! وهو ما أعاد إلى الأذهان ظرفيةالتدخل باسم الإنسانيةالتي برعت فيها فرنسا، في حالات عديدة، سواء في كوسوفو أيام بيرنار كوشنير، أو كما حدث في أزمة البيافرا في زائير أو هايتي وزلزال 2021 الذي كان من نتيجته سحب السيادة من الدولة باسم أخلاق الاستعجال الإنساني، لتقديم المساعدات.

وفي السياق نفسه، عادت إلى الأذهان ديبلوماسية فرنسا، التي جعلتها البلد الوحيد الذي عيَّن لنفسهكاتب دولة للعمل الإنسانيفي 1988. والحال أن عديدين من أصحاب الرأي الفرنسي أنفسهم اعتبروه مجرّدحقّ في انتهاك السيادة الوطنية، باسمعدم السماح بالحق في اللامبالاة“! وزاد الطينة بلة، في العلاقة بين باريس والرباط، الخطاب الذي اختار إيمانويل ماكرون التوجّه بهمباشرة إلى المغاربة، نساء ورجالا، بخصوص المساعدات وشرحها لهم بدون المرور بالقنوات الرسمية، وهي سابقة في العلاقات الديبلوماسية بين البلدان، وحجر كبير تم رميه في البرهة التاريخية بين الأمتين. وكان أن نشطت دورة التاريخ الأليم المشترك، وترتّب عنه اللجوء إلى تحليل العلاقات في ديمومتها عبر مخيال الدولة المغربية الحديثة، فاعتبرت الأقلام التي كتبت في الموضوع أن الرئيس الفرنسي، الذي يعيب على دول الجنوب العمل بالذاكرة الأليمة، يشتغل بآلياتها الاستعمارية عندما تكون في صالحه، من خلال تجربة المغرب الذاتية في علاقة إدارة الدولة الفرنسية مع شعبه وعاهله، وهي تجربة يغار المغاربة عليها ويخلدونها في ذاكرتهم الجمعية عبر الثورة المشتركة للملك والشعب ضد الاستعمار الفرنسي. بالرغم من أن المغاربة يعيشون بنوع من السلمية تاريخ الصدمة الاستعمارية، يتجاوزونها، ضمن فهم واسع للنهوض التاريخي والخروج من صدمة الآخر، إلا أن السلوك المتعالي لماكرون وفريقه أنعش الذاكرة بقوة.

وفي شبكة القراءة التي استرجعوها من الذاكرة، بدت محاولة الرئيس التوجّه إلى المغاربة مباشرة إعادة متأخّرة لمحاولات فرنسا إبّان الاستعمار عندما أرادت حل معضلة الاستقلال المغربي بعيدا عن عاهله، والتعامل مباشرة مع القوى المجتمعية (بما فيها الوطنيون والمستقلون وبعض أتباعها من الإدارة الترابية وأتباع الزوايا) مقابل التخلي عن العرش ومالكه محمد الخامس وقتها، بعدما كانت قد نفته إلى كورسيكا، وتسبّب ذلك في تصاعد المقاومة الشعبية المسلحة والمدنية والسياسية.

ومن فقرات ذلك ما ذكره أحد القادة الوطنيين، الفقيد امحمد بوستة زعيم حزب الاستقلال الذي حضر المفاوضات بين وفد الوطنيين المغاربة ورئيس الحكومة الفرنسية وقتها إدغار فور، والذي جوبه بالرفض من المفاوضين بقيادة الراحل عبد الرحيم بوعبيد أحد الموقّعين على وثيقة الاستقلال وعضو وفد المشاورات حول الاستقلال، فقال فور قولتهلم أكن أعرف أنكم في شمال أفريقيا أيضا تعبدون الطوطم، ذلك المجسّد الإلهي الذي ينحته الأفارقة من خشب أو حجر!

ويعد تبخيس العلاقة بين الملك والشعب في علاقةطوطميةعجزا فظيعا في الفهم الفرنسي، بالرغم من المرافقة الفرنسية التاريخية، سلبا حينا وإيجابا حينا آخر، لتطور أوضاع المغرب ما بعد الاستقلال. واعتبر كثيرون أن في الموقف الحالي لماكرون ما يذكّر بهذه النزعة، من خلال حاجة فرنسا لمهاجمة الملك، لكي يتم لها دخول حلبة القرار المغربي.

وإذا كان هذا التأطير التاريخي حاضرا، ضمنا أو صراحةً، في تدقيق التشخيص للشروخ التي عمّقها الزلزال بين البلدين، فإن الاستعلائية الفرنسية تزاوجت مع نوع من الخفّة المذنبة من الرئيس ماكرون وديبلوماسيّته. وهو ما قد يدفع المتتبعين إلى اعتباره خطا ديبلوماسيا يعيد إلى الأذهان سلوكات تراكمت من ماكرون وفريقه، في إدارة علاقة مركبة مع المغرب، منها الطريقة التي كان قد أعلن فيها زيارته إلى المغرب في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهو يغادر قاعة للرقص!

ليست العلاقات المقطوعة بين ملك المغرب ورئيس فرنسا سرّا، ولكنها لم تجعل الملك يقطع علاقته مع فرنسا التي كان يزورها زيارة خاصة، عندما وقع الزلزال، فقطع زيارته للعودة فورا إلى بلاده! ولعل الفصل الأخير في إدارة رمزيات فرنسية إعلان وزيرة الخارجية عن زيارة مرتقبة للرئيس ماكرون إلى المغرب، في حوار تلفزيوني، يبدو أنه كان تحت الطلب، وهو السلوك الذي ردّ عليه المغرب بالصرامة نفسها، باعتباره خرَقَ الأعراف الديبلوماسية في التشاور عند كل حدث بارز، وفنَّد وجود أجندة لهذه الزيارة أو برمجة لها. ولا يخفى على المتّتبعين وأصحاب القرار أن وصول العلاقات إلى هذا الحد من التذكير بأبجديات الديبلوماسية بحد ذاته أمرٌ غير مسبوق، وإذا كان المغرب قد أدار أزمات من القوة بمكان مع عواصم أوروبية أخرى، كان المطلب الرئيس فيها الوضوح في التعامل معه في شؤونه السيادية، فإن للتاريخ هنا ما للهزّات الارتدادية من التأثير الذي يعقب الزلزال!