فرنسا المريضة (بقلم: د. عبد الدين حمروش)

حين نقوم بمتابعة بعض البرامج والحوارات، المبثوثة على وسائل الإعلام والتواصل الفرنسية، سنتفاجأ بحجم حضور موضوع المهاجرين، مرتبطا بما تشهده فرنسا من مشاكل وازمات متتالية. وعلى الرغم مما عاشه الفرنسيون من أزمات حادة في السنوات الأخيرة، مثلما حدث مع انتفاضة السترات الصفراء خلال ولاية ماكرون الأولى، وتلاحق مع احتجاجات العمال والموظفين على “سن التقاعد” خلال الولاية الثانية، إلا ان “أحداث الضواحي” استحقت، من قبل المحللين والمعلقين، وصفها بالفتنة تارة، والانتفاضة تارة ثانية، والحرب الأهلية تارة ثالثة.

لا شك في أن أزمات فرنسا المتعاقبة، لها صلة ما بمعضلة “تدبير ملف الهجرة”، وإن لم يكن الملف المسؤول الرئيس والمباشر، الذي يهوي بفرنسا في خضم متلاطم من الأزمات. وإذا قمنا بتوسيع شاشة المنظار، بالانتقال من الداخل إلى الخارج، فلن يصعب إيجاد أمثلة على تسارع الانحدار الفرنسي، مجسدا في تقلص نفوذ الاليزيه، وإشعاعه على الصعيد العالمي، وفي مختلف المجالات الثقافية والديبلوماسية والتكنولوجية والعسكرية. ففي شمال إفريقيا، وجنوب الصحراء، مثلا، بتنا نتابع، باستمرار، كيف أخذت فرنسا تنسحب بشكل دراماتيكي.

من عادة معظم السياسيين والصحافيين والمثقفين، حين يتابعون الأوضاع والمستجدات، أنهم يلجؤون إلى اختزال هذه الأزمة او تلك في هذا العنصر أو ذاك، او في بعضها مجملة بشكل عام. والحقيقة أن المتابع للشأن الفرنسي، حين يأخذ فكرة عن كل جوانب موضوع الازمة، سينتهي إلى ان هذه الأخيرة ماثلة في معضلة كبرى، يمكن ترجمتها تحت العنوان الآتي: تراجع “النموذج الفرنسي”. إن هيمنة النموذج الأنجلو- أمريكي، إضافة إلى صعود نماذج أخرى، قادمة من آسيا وأمريكا اللاتينية، يزيد في تقهقر النموذج الفرنسي، الذي يمكننا اختزاله، ثقافيا، في إفلاس النموذج الفرونكوفوني.

وبالعودة إلى ملف الهجرة، الذي يراد له ان يكون “ملف الملفات”، بتأثير من قبل الأغلبية اليمينية المتزايدة، من السياسيين والمثقفين، فالملاحظ أن بلد الأنوار لم يستطع ابتداع نموذج ملائم، على غرار ما هو موجود في بريطانيا وألمانيا وباقي دول أوروبا الغربية، باستثناء الفرنكوفونية منها (مثل بلجيكا).

وإلى ان تخف حدة الأزمة الحالية، وبالتالي يتوفر الوقت المناسب للنظر في المرآة، ينبغي على فرنسا ان تطرح على نفسها السؤال المناسب والمطلوب: لماذا نجحت نماذج الآخرين، وفشل نموذجي أنا بالذات؟ حينذاك، سيتضح ان طروحات اليمين، المختزلة في إحالة الأزمة إلى المهاجرين، لن تجلب إلى فرنسا خيرا: لا تقدما في البحث العلمي، ولا إشعاعا في الديبلوماسية الخارجية، ولا رفاهية اقتصادية واجتماعية، وفي الأخير لا وئاما مدنيا.

من حسن حظ فرنسا، في ظل هذا الإجماع على تجريم المهاجرين، ان بها كتلة يسارية قوية لا تكف رفع صوتها في وجه الأغلبية اليمينية، معبرة عن رفضها شيطنة الآخرين المختلفين ثقافيا، وضمنهم فئة واسعة من مواطني شمال إفريقيا.

في بعض الأحيان، يبدو الأمر مجرد تسخينات انتخابوية سابقة للأوان، وبخاصة مع اقتراب التجمع الوطني اليميني المتطرف من انتزاع مفاتيح قصر الاليزيه لصالحه. ولكن هذه التسخينات الانتخابوية، التي تكون نتيجتها تعبئة مرضية ضد المهاجرين، إلى حد إشاعة الخوف بينهم، والمطالبة بطردهم من قبل البعض، لن تنجح في التعبئة لاستعادة أمجاد فرنسا الآفلة بتاتا.

عادة ما يقال: من يتواجد في الحكم، ليس كمن يتواجد خارجه. والمثال يمكن اخذه من إيطاليا، التي سارعت وزيرتها اليمينية جورجيا ميلوني إلى القيام بزيارات إلى عدد من الدول العربية قبل غيرها. ولو استغلت هذه الأخيرة بعض علاقاتها، من اجل صون حقوق المهاجرين وكرامتهم، لخف كثير من الضغط على جالياتنا في بلدان المهجر الأوروبي.