جاءت زيارة الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، الى روسيا الاتحادية في سياق إقليمي ودولي مركب، موسوم بمتغيرات طارئة عديدة. وإذا بات من المفهوم حاجة ساكن الكريملين الى مثل هذه الزيارات، لاشاعة الاعتقاد أن روسيا لا تشهد أية عزلة دولية، فإن توجه الرئيس الجزائري إلى موسكو، للتوقيع على اتفاق شراكة استراتيجية معمق، تحيط به دوافع سياسية “ضيقة”، على الرغم من كثرة الحديث الإعلامي عن الأجندا الاقتصادية للزيارة.
ابتداء، إن الأخبار المروجة من قبل الإعلام الداخلي، تحديدا، حول وجود مؤامرة خارجية، لزعزعة أمن بعض الولايات الجزائرية، يمكن قراءتها على أن الهدف منها، هو “تغطية” ما يروج وقوعه في الجنوب من أحداث، لها علاقة بالعمليات المسلحة المدبرة من قبل الطوارق ضد الجيش الجزائري. وكما يحصل في مثل هذه الحالات عادة، ففي مقابل “التعاطي” مع مطالب السكان الطوارق “الجزائريين”، ومقاربتها بما يتناسب من حلول، يتم تصدير القضية إلى “الخارج”، بزعم ان هناك أطرافا إقليمية ودولية تسعى إلى العبث بالاستقرار الجزائري. ذلك أن في سياق المتغيرات الاقليمية، التي عرفتها المنطقة المغاربية ودول الساحل والصحراء، منذ السنوات الأولى للحرب على الإرهاب، يمكن القول بأن الحدود المشتركة، بين جنوب الجزائر وشمال مالي، امتدادا إلى بوركينافاسو والنيجر وتشاد، وانعطافا شمالا نحو ليبيا، ظلت مهيأة لاستقبال تفاعلات أمنية إقليمية كبرى، تساهم فيها، إلى جانب عمليات القاعدة وداعش، والوضع الليبي غير المستقر، عودة الانقلابات العسكرية، تحت تأثير هشاشة بعض الأنظمة الإفريقية القريبة، وبخاصة في سياق خروج فرنسا من جهة، ودخول فاغنر “على الخط” من جهة ثانية. أمام ما يحدث في جوارهم الجنوبي الشاسع جغرافيا، ينبغي على حكام المرادية ألا يخطئوا القراءة والتحليل المناسبين، ان ارادوا التفاعل بإيجابية مع الأحداث الأمنية الطارئة، أو المتوقع حدوثها.
يظهر أن هذا المعطى الأول، الذي لم تسع السلطات الجزائرية إلى التحسب له، في أي من الأوقات السالفة، عبر الكف عن تأجيج حركة الانفصال في الجنوب المغربي، قد اقتضى من السلطات الجزائرية، قبل أكثر من اسبوع، اجتماعا طارئا لمجلسها القومي، غطته وسائل إعلام بقراءات “مخابراتية”، بلغت حد الحديث عن حشد عسكري جزائري على الحدود المغربية. كتعببر عن هذه المفارقة العجيبة، يمكن الاكتفاء بالتوصيف التالي: “المسرحية” في الجنوب الجزائري، اما “التغطية” فميدانها الحدود المغربية، حيث مناورات “الأسد الإفريقي”، داخل التراب المغربي، تجري، مثلما ظلت تجري مناورات الجزائريين والروس ايضا. ما الجديد في هذه المناورات المعتادة، بحيث يتم استدعاء حشد عسكري ما على الحدود؟
في هذا السياق كذلك، يمكن الحديث عن استمرار تأجيل زيارة الرئيس، عبد المجيد تبون، إلى فرنسا. وبخلاف العلاقة المغربية- الفرنسية “غير الودية” حاليا، كانت جزائر تبون، مؤخرا، أقرب إلى فرنسا ماكرون من أي وقت مضى. ماذا حصل، حتى يقطع الرئيسان “شهر العسل” في ما بينهما، ويعود كل واحد إلى “بيته” مفردا؟
ان التعلق بتبريرات، من مثل امتناع باريس عن منح تبون زيارة دولة، أو رفض التضييق على “الماك”، في تحركات أعضائه داخل التراب الفرنسي، أو الاحتجاج على تهريب الناشطة الحقوقية أميرة بوراوي، إنما هي امور لا تتناسب مع رد الفعل الجزائري القوي والمفاجيء. وفي الواقع، يمكن الحديث ، هنا، عن ردين متلازمين:
-الاول يتمثل في استعادة مقطع محذوف إلى النشيد الوطني الجزائري، وهو المقطع الذي يتوجه إلى فرنسا بالتحدي والتهديد. والملاحظ انه، بعد هذا الذي يجري مخالفا للمجرى الطبيعي للعلاقة الجزائرية- الفرنسية الناشئة، يصعب على المتتبع الاطمئنان إلى قرب تطبيع الوضع بين الدولتين إلى ما هو أوثق وأمتن على المدى المنظور؟ هل موضوع العلاقة بفرنسا موجود بأيدي الجنرالات، بحكم توجسهم من أي اقتراب مبالغ فيه لتبون من ماكرون، وبخاصة في ظل وصف الأخير للأول بأنه “عالق في نظام قاس”؟
– الثاني، يتمثل في توجه الرئيس، عبد المجيد تبون، شرقا، إلى روسيا الاتحادية. وأعتقد أن في هذا التوجه، تكون الجزائر قد استمرت في جنوحها إلى موقعها الجيوبوليتيكي التقليدي. غير انه، بالنسبة إلى العلاقة مع فرنسا، ينبغي توسيع الفضاء، بحيث يشمل كل ما كان يسمى المعسكر الغربي برمته، والذي سعت دوله (وتسعى) إلى افتكاك الجزائر من قبضة الروس، منعا لبوتين من الاستفادة من عائدات الغاز الجزائري، لتغطية نفقات الحرب المستجدة في اوكرانيا منذ أشهر. أي توتر للعلاقة مع فرنسا، في السياق الحالي، إنما هو مؤشر واضح وقوي على توترها مع الغرب بصفة عامة.
وإن بدت الجزائر أقرب إلى باريس، خلال ولاية ماكرون الثانية، حتى وقت متأخر، مع ما كان يجلبه هذا من اتهامات المعارضة للنظام بالخنوع أمام المستعمر القديم، ضدا على كل الشعارات الوطنية، القادمة من آداب الثورة الجزائرية، أو “ريع الذاكرة” بحسب وصف الرئيس الفرنسي، الا أن وجود طرفين متضاربين في الحكم (العسكر والرئاسة) يعرقلان أي تنسيق على صعيد السياسة الخارجية للبلاد. هذا التضارب، مجسدا في وجود رأسين داخل نظام الحكم، كثيرا ما يجعل الدبلوماسية الجزائرية تقع تحت طائلة “الانقلاب” من جهة، و”رد الفعل” من جهة أخرى. هذا، كما ان الموقف من الصحراء المغربية، في إطار علاقة الجزائر بالمنتظم الدولي، لم ينفك، منذ السبعينيات، ان يكون عاملا حاسما في اضطراب العلاقة بهذه الدولة أو تلك (اسبانيا، مثالا حيا، اليوم).
وإن كانت العلاقة مع الروس أسهل، وبخاصة على صعيد التسلح، والخبرة باستعمال الأسلحة الروسية، الا ان توقيع اتفاق الشراكة الإستراتيجية مع روسيا بوتين، حيث الحرب مستعرة مع الغرب كافة في اوكرانيا، سيضع الجزائر في حالة “شرود” دولي. ما الذي ستربحه الجزائر من علاقتها بروسيا، على الصعيد الإقتصادي والتكنولوجي، وفي سياق التوتر الحالي، باستثناء التمكن من التزود بالأسلحة، على الرغم من حاجة الأولى اليها لتغطية حربها في اوكرانيا، أو باستثناء الأمل المبالغ فيه بدخول “البريكس” قريبا؟
ان روسيا، ما قبل الاصطدام مع اوكرانيا، ليست هي روسيا اليوم. ولذلك، فإن عبارات الرئيس الجزائري، وهو يرتجل كلمته أمام بوتين، كانت تحمل كثيرا من التوجس (أو الخشية حتى). هل من الضروري القول بأن لروسيا، اليوم، القدرة على ضمان استقلال الجزائر، كما ورد على لسان تبون، والذي وجدت فيه المعارضة الجزائرية حطا من كرامة الجزائريين وبلادهم؟
النظام الجزائري يسير بعكس مجرى التيار. وهو، في كل ذلك، يبني سياسته على مجرد ردود أفعال، بغض النظر عن تكلفة توجهاته. روسيا الاتحادية، التي تقول إن لها حقوقا ترابية تاريخية في أوكرانيا، والتي تجد من الجزائر سندا لها في ذلك، بهذه الصيغة او تلك، تقف هذه الجزائر في وجه اي تطبيع مع جارها المغرب، بل وبمعاكسته في حقوقه الترابية الأصيلة. ومع الإقرار بوجود فروق جوهرية بين القضيتين، بحكم ان المطالب الترابية الروسية في أوكرانيا ذات علاقة بما هو استراتيجي أمني، في إطار نوع من التوازن، كان مرعيا منذ الحقبة السوفياتية، وما تلاها من معاهدات بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، بخلاف الحقوق المغربية المشروعة، التي كانت مجرد مطالب ترابية معلنة في وجه المستعمر الإسباني، قبل أن تحولها الجزائر إلى صراعات ابدية، حول النفوذ في المنطقة المغاربية، او التطلع إلى منفذ بالمحيط الأطلسي.
كما هو واضح، فإن المطالب الترابية، في المنطقة المغاربية، لم تحسم إلى اليوم. وإذا كانت الجزائر محظوظة بقسمتها الترابية الكبيرة على حساب الجيران، بحكم النفوذ الفرنسي الاستيطاني الراسخ آنئذ، فإن ذلك لا ينبغي ان يكون مدعاة للتغول على حقوق الآخرين. الانفصال واقع يهدد الجميع، وفي المقدمة الجزائر نفسها. إن الحدود التاريخية، أو الحدود الموروثة عن الاستعمار، لا تحسمها قرارات الامم المتحدة قطعا، وإنما تحسمها ارادات الشعوب الحرة.
ولذلك، بدل توسيع نطاق عدوى الانفصال، ينبغي التفكير في جعل المنطقة المغاربية، بامتداداتها نحو دول الساحل والصحراء، فضاء حيويا للتنقل، مع ما يعنيه ذلك من سلام وتعايش وتعاون. وأعتقد أن في دعوة الملك، محمد السادس، إلى الاجتماع حول مائدة واحدة، رغبة اكيدة لتسوية مختلف المسائل العالقة. بدل الإمعان في التسلح، بإهدار المقدرات الوطنية في ما هو غير مفيد للشعوب وتنميتها من جهة، وفتح المنطقة على الأطراف الخارجية، بما فيها العدوة، من جهة أخرى، هناك مجال واسع لابداع حلول واقعية للمعضلات الترابية في المنطقة. اجتماع تبون بمحمد السادس أقرب، وأضمن نتائج من اللقاء ببوتين، لو صدقت النوايا في ان النظر مصوب نحو: مصلحة المنطقة والأمة جمعاء. فهل يكف حكام المرادية عن اعتبار مثل هذه الدعوات مجرد توسلات، أو ضعف من الجار؟ قد يرضي هذا إحساسهم بقدر من العلو الذاتي المؤقت، لكنها لن تجلب استقرارا وتنمية إلى المنطقة؟