صدر للكاتب و الصحافي عبد الحميد اجماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “المغرب و الشجرة التي عرت الغابة” خصصه لموضوع اغتصاب الطفلة ذات الاثنى عشر ربيعا بمدينة تيفلت، ضواحي العاصمة الرباط. و نظرا لأهمية المقال، يعيد موقع “الكوليماتور” نشره.
تجتاح المغرب موجةُ غضب عميقة، تخترق طبقاته من أسفل السلم الاجتماعي إلى أعلاه. السبب فيها قصة فتاة قروية، من نواحي العاصمة الرباط، تعرّضت لاغتصاب جماعي من ثلاثة أشخاص، أحدهم متزوج وأب، نتج عنه حمل. ولعل الذي أفاض الكأس الحكم القضائي الذي صدر في حق الجناة، بسنتين سجنا نافذا وغرامة مرفَقة، أقل بكثير ممّا ينصّ عليه القانون في نازلة مشابهة، بل اعتبرته قطاعاتٌ واسعةٌ من المجتمع إهانة واغتصابا ثانيا اقترفه القاضي الذي أصدره.
اتخذت الحكاية أبعادا تتجاوز ترتيب أحكام أخلاقية عن جريمة اغتصابٍ إلى الحياة الجماعية للمغاربة، باعتبار الواقعة عنصر إضاءة للانتماء الثقافي حاليا، والعلائق الاجتماعية المبنيّة على تطبيع العنف والقوة الطبقية. وتكشف كذلك الصورة التي يريد المغربي أن يملكها عن نفسه وبلاده. وفي القصة ملخّص لما يعتمل في المجتمع بخصوص العلاقة مع النصوص المنظّمة للحياة الأسرية: هناك الاغتصاب الجماعي، والنظرة الاعتبارية للضحايا، ثم الطفل المولود من علاقة عنفٍ واضحة، وترتيب بُنوَّته الشرعية والقانونية التي لا يوجد ما يضمنها في النصوص المغربية الحالية، ثم دور القضاء في بناء الهوية الجديدة للأسرة المغربية وتحصينها، من زاوية الإصلاح العميق لمدوَّنتها، علاوة على دور الفاعلين الجدد في توفير إرادة الإصلاح داخل المجتمع، فيما سمّاهم الباحث المغربي محمد الطوزي “الليبراليين الجدد أو حاملي النيوليبرالية في المغرب” (انظر كتابه حديث الصدور “خياطة الزمن السياسي، مخيال الدولة في العصر النيوليبرالي”).
وأول ما يتوجّه النقد الإصلاحي حاليا إليه الحكم القضائي، والقضاة الذين لجأوا إلى “ظروف تخفيف” لم يستسغها المجتمع، علاوة على الحركة النسائية الفاعلة والنشيطة للغاية في المجتمع. ومن عناصر التفكير التي لا يمكن القفز عنها، وأن الحادثة وتفاعلاتها تتزامن مع حركية إصلاحية “حرَّض” عليها الملك محمد السادس، تحريضا إيجابيا، عندما نبَّه، في خطاب له يوم 30 يوليو/ تموز 2022، إلى الزاوية المنخفضة لدى بعض القضاة في التعامل مع قضية القاصرين (وإنْ كان الوضع يهم الزواج الشرعي ما بالك بالاغتصاب). دعا الملك في الخطاب إلى تطبيق صحيح للمدوّنة الخاصة بالأسرة، والتي اعتبرت على درجة عالية من الجرأة، وكانت بتحفيز واضح من العاهل المغربي، وتفاعلت معها مكوّنات المجتمع برمتها بالإيجاب. وشكّلت هذه المدونة سنة 2004 قفزة ثورية في مسار الإصلاح، لكنها بعد 18 سنة أبدت بعض عناصر القصور، وهي ما وصفها الملك نفسه بأنها “أصبحت غير كافية”، لأن التجربة بيّنت “عدة عوائق” تقف في وجه استكمال المدوّنة لثورتها، ومن بينها بالذات ما اخترناه عتبة للمعالجة في تداعيات قضية الاغتصاب، فعلاوة على الأسباب السوسيولوجية، هناك أسباب أخرى ذات صلة بـ”فئة من الموظفين ورجال العدالة”، والذين يميلون، شعوريا أو لا شعوريا، إلى ترتيب أحكام “فئوية” في تنفيذ بنودها. ولا بد من التشديد على أن الأيديولوجيا والسوسيولوجيا قد تقيمان في القضاء، كما قد تسكنان في العقليات. وهوامش أخرى تدعو إلى تأصيل المدوّنة ومراجعتها، بتفكيك مواطن السوسيولوجيا الماضوية، وتفكيك قاعدتها الثقافية. وقد صار في حكم الإجباري تجاوز الاختلالات والسلبيات “بل مراجعة البنود التي تم الانحراف بها عن أهدافها إذا اقتضى الحال”، كما جاء في الخطاب الملكي
صحيحٌ أن الحكم الذي أصدره القاضي لم يستمد حيثياته من المدوّنة، لكن القاضي كان قاصرا عن إدراك التحوّل الجوهري الذي “بيَّأَتْه” المدوّنة في التربة المغربية، والقاضي بتجاوز التساهل مع حقوق النساء في المغرب، وباعتباراتٍ أكبر إذا تعلق الأمر بالعنف المفضي إلى الحمْل في حق قاصر! وهذه الروح الجديدة التي ارتبطت باسم فتاة فقيرة وقاصر تعمل مثل الشجرة التي تعرّي الغابة، لا تقف عند النصوص المنظّمة للأسرة والعنف داخل الأسر. وهي تسمح بأن تسحب نفسها على مقوّمات التعامل القضائي مع الاغتصاب، مع ما يترتّب عنه من حمل ومن أدوار الدولة والمجتمع في حماية الضحايا، وأولها دور تغيير النصوص.
وإلى جانب ذلك، التقت الحركة النسائية على احتضان القضية، في وقت تجتهد في تقديم مقترحات عملية متطوّرة لمراجعة المدوّنة. وقد فعلت الحادثة المأساوية دور العنصر المخصِّب لتفكير ثوري مرتفع السقف، وتعالت الأصوات الداعية إلى تنقية القانون من الشوائب التي تسمح باستعماله ضد الضحايا. وقد كان لافتا أن الدينامية الحالية تلاقت حولها وفيها مكوّنات متباينة ظاهريا، بشأن الإصلاح المحمول على قواعد عالمية، منها كونية الحقوق والواجبات، حيث التقت الحركات النسائية والمنظمات الاشتراكية واليسارية، والرابطات النسوية بشعاراتها الديمقراطية في المغرب، مرورا بالمجتمع المدني البورجوازي، والنخب التقليدية التي اعتنقت جزءا من قيم النيوليبرالية. وكان لافتا أن مشاريع عديدة ذات الارتباط بالإصلاح بشأن وضعية المرأة في مغرب ما بعد النسخة الأولى للمدوّنة، يوقّعها نساء ورجال من المجتمع “البرجوازي” العامل في حقل الإصلاح الليبرالي الجديد: وزراء وتكنوقراط كبار خدّام الدولة التقنيون قادمون من البنية البورجوازية في المجتمع، علاوة على قطاعاتٍ واسعة من النخب اليسارية التي تعدّ من المدافعين بشكل لامشروط عن حقوق النساء. وهي نخب تعتبر أنها نجحت في جعل القضية قضية مجتمع، ودولة، سيما بعد أن اعتنق العهد الجديد استحقاقاتها الثقافية والإصلاحية.
سيرتبط اسم الفتاة الفقيرة القاصر بحركيةٍ قد يجد لها بعض الباحثين شبيها في “أثر الفراشة”، التي يمكن أن ينجم عن حركة جناحها المزركش انقلابٌ في الطبيعة وفي المجتمع لا تعدّ ولا تُحصى تداعياته.