كم هو رائع أن يحقق الفريق الوطني آنتصارا كبيرا ،،وهو كبير لأنه في مباريات كأس ” العالم ” ،ثم لأن المنافس أحد أقوى الفرق في العالم .ولأن الحدث والفرحة كذلك ،فإنهما مناسبان لأن يحركا فينا حواس التأمل والبصر بمكامن السحر التي تمارسها علينا هذه الرياضة / اللعبة .
وهي ساحرة لأن تأثيرها على الوجدان وآستثارتها للانفعالات غريب وقوي، فبواسطتها تعود مشاعر الانتماء والهوية للظهور في ما يشبه تفعيلا لشئ يوشك أن يتلاشى وفق دورات زمنية غير محددة ، خاصة كانت روح الجماعة هي موضوع هذا الجانب السيكولوجي ومجاله.
وكرة القدم من هذا المنظور تعكس ما في قطاع اللاوعي من غريزة الحرب بمعناها السلوكي البدائي والتي تمجد قيم الانتصار والغلبة ملبسة غريزة حب البقاء / الخوف من الموت، لبوس القيم او التسلية في ما يصح أن يكون التحويل فيه استعاريا .
وليس هناك شئ أدل على معنى “الجماعة” من الإيقاع الهارموني كما تؤديه الأجساد في التعبير عن الانفعالات ؛ الصاعدة منها والهابطة ، المنبعثة من الصورة او من الصوت .. وعلامات اللون واحدة منها، فلون القميص عند الأحد عشر لاعبا على العشب والذي يؤدي وظيفة خلافية تمييزية ،يتحول إلى دلالة عاطفية رمزية عند متقمصيه على المدرجات. ومن هنا يحقق الصوت والصورة كلاهما ما يشعر الفرد بأنه يتقاسم شيئا ما مع الآخرين، وهو شكل من أشكال التمويه الجماعي le mimétisme الذي نلحظه في تكثل بعض الكائنات للدفاع عن نفسها، كالاسماك الصغيرة في مواجهة القروش او كما عند الطيور .
ومن هنا كذلك يتوسع قطاع المشاعر الجمعية في المنافسة الاستثنائية ، ليشمل الاهتمام بكرة القدم حتى العجائز ويفسر أقبال المراهقة الوديعة على تقصي ما يفيد من معلومات عن الحياة الشخصية للاعبين نجوم من ذوي الوسامة .
ولكرة القدم بهذا المعنى وظيفة تذكيرية ،فهي تعيد بعث الاحساس بالقرابات التي هي في حالة بيات ؛ فقد تفاعل مع الفريق المغربي الناس في العراق والشام واليمن والسودان، وشاهدناهم يقومون أمام الشاشات ويقعدون، ويمسكون برؤوسهم في لحظات التقصير والخيبة ويصدرون الأصوات المتراوحة بين الإعجاب والاحباط على نحو نفهم منه أن هناك ما يجمع رغم وجود ما يباعد، كما نفهم منه أن لغة الجسد كونية عندما يكون الموقف عاطفيا .
وعلى قدر المشاعر العنيفة المتمثلة في غريزة “الحرب” واسقاطاتها .هناك مشاعر الايجاب ممثلة في الحب. فأنا ابدي سخطي ثم رضاي عشرات المرات خلال المقابلة ،على لاعب يراوح في أدائه بين الإتقان والرداءة، تماما كما يحصل بين الاب وابنه او الأخ وأخيه وهو الحب المتنافر l ‘amour répulsif.
وهي ساحرة لما فيها من إيحاءات أخرى؛ فاللاعب الذي يحمل جنسيتي وينوب عني لدى الاخر المختلف ، هو الذي ينتصر لي ،لأنه يحول احباطاتي المتراكمة إلى سعادة ، ويحقق لي تفوقا على مستوى المعادِلات الرمزية تكمل مناقص الاخفاق في الواقع .لذلك فالأثر “السحري” ليس زائفا مادامت التوازنات السيكولوجية تنشأ عنه.
وهي اللعبة التي تعيد لنا صياغة عالم مثالي؛ فكرة القدم من وجهة التاريخ، نتاج عقل أوربي شكلته فلسفات ومبادئ انسانية، كما تزامنت مع ظهور الرأسمالية وليس مصادفة أن تظهر هذه اللعبة في انجلترا مهد الراسمالية. وهي من شقها الإنساني تعكس مبادئ العدالة ( الحَكم +الفار var)، تكافؤ الفرص، والقيم المصاحبة للكفاءة وروح المنافسة، وانبثاق قيم الجماعة من القيم الفردية .كل ذلك فهي لم تتخلص من مظاهر العدوانية (الانتشاء المستفز بالانتصار) والانتقام والشماتة بالمهزوم .وفيها أن شئنا؛ ملامح الداروينية ( البقاء للأقوى ).
وهي ساحرة كذلك ،لأنها بكل ما تختزله لنا في قطاع المشاعر، وما تُخرجه من لاوعينا من بقايا السلوك البدائي، إنما تشبه لعب الأطفال التي تُقَزٍّم العالم للطفل من خلال أيقونات الدمى والعربات البلاستيكية، والتي تشعره سيطرته عليها بأنه ليس ضعيفا او اقل حجما ، ولهذا فرغم كونها الرياضة الأكثر شعبية ورغم عائداتها الاقتصادية والمالية بالأرقام الفلكية ،فإنها ظلت تسمى لعبة .
ولكم وددت لو أن بعض المغاربة ممن افرطت حماستهم ، لم يعبروا عن فرحهم بإسقاطات التاريخ في شقه العنيف، وأقصد هنا الذاكرة التي نقتسمها مع جيراننا الايبيريين تحديدا، فليس من المناسب استذكار معركة الزلاقة وطارق بن “زياش” وموسى بن ” النصيري” ، وغير ذلك من رموز التاريخ العنيف الذي يعود إلى القرن السابع الميلادي والقرون الوسطى. فذاك تاريخ من تاريخ البشرية الذي حكمت علينا به عوامل وصدف الجوار والجغرافيا .وضم الشقاق والحرب إلى الفرح شئ مستفز ومردود خاصة وأن العالم اليوم ينصت بعضه إلى بعض. وهذا ينبئ بأن كل واحد منا يخزن في داخله ذاكرة توافق نمط تفكيره وثقافته ومدى انخراطه في سياق الإنسانية والعالمية.
وقد يكون من غير السوي أن لا نرى العالم من حولنا الا من أفق صدامي؛ وكانت والدتي كلما لعب الفريق الوطني سألت عن الفريق الاخر(هل هم مسلمون ؟). وكم أعجبني أن شبابا جزائريين في التصريحات يقولون من غير تردد: (نسيبورتي المرّوك).ونقلت إلينا الفيديوهات متابعاتهم لانتصارات فريقنا بمنتهى الحماس، ولكي اكون محسنا للظن؛ اُرجع ذلك إلى العفوية التي تصحح المشاعر فيعود الاحساس بالقرابة وحسن الجوار وأستبعد أن يكون ذلك منهم غوغائية مزاجية .