انطلاقا من بعض المنشورات والمقالات وكتاب الأغاني للأصفهاني يمكن أن نستشف بشكل بين أن المسلمين لم يتخذوا موقفا صريحا تجاه الموسيقى والغناء، خاصة إبان الفترة الإسلامية وهي فترة كما سبق قوله لم تبطل العادات الجاهلية إلا ما وجب والتي تتعارض مع أحكام الدين ومناهجه وتعاليمه حيث استمرت الموسيقى بما هي مظهر اجتماعي أكد ضرورة وجوده في الأعياد والمسرات والأفراح والمآتم والحروب.
لكن إذا ما اتبعنا المنهج نفسه فسوف نقف على الموقف الحقيقي للإسلام، ولهذا وجب البحث والتمحيص في النص المقدس بنوعيه النص القرآني ونصوص الحديث. ففي النص القرآني لم أجد آية واحدة تحرم الموسيقى أو تكرهها. رغم اعتماد العديد من الفقهاء على آيات غير صريحة تتحدث عن اللغو واللهو، قال تعالى في سورة لقمان: (ومن الناس من يشتري لغو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) أو الآية الثانية التي استشهد بها التحريم الموسيقي حيث قال تعالى عز وجل : (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما) .
والتي قال فيها محمد بن المنفية في تفسير ابن كثير: الزور هنا الغناء وهناك من مثله شرح الزور بالغناء كالقرطبي والطبري عن مجاهد حيث فسروا قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور: وقال: لا يسمعون الغناء.
أما موسيقية النص القرآني فلا أحد يمكن أن ينفيها فقد اعتبرت من العوامل الإعجازية وإلا لماذا أغلب الآيات وخاصة المكية منها تأتي بقافيات رنانة عذبة تصل إلى الأذن بسلاسة ويستحسنها المقرئون والمجودون؟ وما الحديث الصحيح ” زينوا القرآن بأصواتكم ” إلا دليل على وجوب التغني بالقرآن فالموسيقى المضافة للآية تجعل الكلمة أن تصل إلى الروح وبشكل سريع عبر تأكيد الفكرة إلى العقل، إذ أكد الخبراء أن أي نص تربوي صاحب الموسيقى يكون أبلغ ويترسخ في العقل والوجدان.
أما إذا استنطقنا الأحاديث العديدة والكثيرة التي جاءت في الموسيقى فهنا يكون الأمر محيرا حيث عثرنا على نوعين من الأحاديث المتعارضة وبما أني لست متخصصا في الفقه فسأدرج بعضها للاستئناس وإيصال الفكرة. دون أن أبين بشكل قطعي تراتبية هذه الأحاديث على مستوى أنها صحيحة أو ضعيفة أو غير ذلك.
الأحاديث التي حرمت الموسيقى:
روى جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : “كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى”. وعن أبي أمامة أن النبي قال: “ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله له شياطين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك” .
الأحاديث التي تبيح الغناء: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما بعث الله نبيا إلا حسن الصوت والوجه”.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “الله أشد أذنا للرجل الحسن الصوت من صاحب القينة لقينته”.
“أوصلت السيدة عائشة لأحد الأنصار عروسه فلما عادت سألها الرسول صلى الله عليه وسلم أهديتم الفتاة لبعلها فأجابت السيدة عائشة نعم فقال: بعثتم معها من يغني لها ؟ فقالت لا قال النبي أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟”
“سمع الرسول صوت قينة بينما كان مارا بمنزل حسان بن ثابت فسأله حسان هل في الغناء إثم يا رسول الله فأجابه الرسول مكررا لا لا”.
عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على السيدة عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان في أيام منى تدفقان وتضربان، والنبي صلى الله عليه وسلم متغشى في ثوبه فانتهرهما أبو بكر رضي الله عنه فكشف النبي وجهه وقال دعهما يا ابا بكر فإنها أيام عيد”.
ومقابل ذلك فقد حبذ المسلمون استعمال الدفوف والطبل والثاهين والقضيب والقربال خاصة في الأفراح والأعياد ومواسم الحج.
وهنا أشير إلى ما يعتقده السواد الأعظم من المسلمين من كون الدف أو ما يشابه من آلات مسموح بها وغير محرمة حيث يعتمدون في ذلك على الحديث المعروف الذي أجاز فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل بيته بالعزف على الدفوف في أحد الأعياد، فيرفعون بذلك الصفة الموسيقية لتلك الآلات وهم غالبا من يحرم الموسيقى ويجعل من الدفوف وما يشابهها حلالا ذلك مع أن هذه الآلات آلات موسيقية مئة بالمئة، رغم بدائيتها، حيث لا تضم الواحدة منها إلا صوتا واحدا أو صوتين على أبعد تقدير، وما آلة العود إلا تطوير علمي لهذه الآلة من حيث تعدد الأصوات ومن حيث طريقة العزف المتطورة فكأننا نتحدث عن الكتابة بالريشة والكتابة بالحاسوب، ففي اعتقادي أن الآلات الموسيقية لا تختلف عن بعضها البعض فقط هناك البدائية وهناك الحديثة واجتماعها وانسجامها يعطي موسيقى متكاملة حيث إن البدائية منها تفيد الإيقاع والوزن والمتطورة منها تفيد النغم والتطريب.
أما أنواع الغناء الذي عرفه العصر الإسلامي فقد حافظ على نوع النداء، ثم هناك أناشيد الحج الوثنية القديمة وهي التهليل والتلبية، وذلك بعد تعديل وإعادة تشكيل من أجل إخضاعها للطبيعة الإسلامية مع الذكر أنها كانت تنشط صحبة الطبل أغاني الحرب التي تحث على الشجاعة وإثارة الغضب على الكفار، وكانت معظم الأغاني من بحر الرجز ثم أغاني الأعياد والمواسم من الأفراح والخطبة والزواج والميلاد، وكذلك أعياد الفطر والأضحى وروح عاشوراء وفي ما بعد أعياد المولد.
ومن أشهر الموسيقيين آنذاك حسب بحث قامت به الدكتورة منال مصطفى :
عمرو بن أمية الضميري، ويقال إنه عزف على الدائرة في زواج سيدنا علي بن أبي طالب من السيدة فاطمة بنت النبي ويعتبر شيخ العزف بالدف.
حمزة بن يتيم يتيمة، ويقال إنه غنى في زواج سيدنا علي بن أبي طالب من السيدة فاطمة بنت النبي وهو شيخ المغنين في هذا العصر.
بابا سو نديك، وهو هندي وكان يضرب على الكؤوس في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم.
طويس عيسى بن عبد الله الذائب والذي استرعت انتباهه الألحان الفارسية وحاول تقليدها ويقال إنه أول من غنى إيقاع الهزج.
سائب خاثر، وقد عمل نائحا فترة، واقتبس من الغناء الفارسي فنونه وألحانه وكان يرافق غناءه بالقضيب ليوضح ضروب ميزانه،
ويقال إنه أول من تغنى في العصر الإسلامي بالثقيل الأول وهو ميزان بطئ.
حنين الحيرى، وقد أخذ هذا الغناء عن كل من عمر بن داود وحكم الوادي ويعتبر أول من أدخل ميزان السناد للعراق وطوره في العصر الإسلامي كما غنى في الهزج.
ومن النساء اللواتي اشتهرن بالموسيقى في هذه الفترة: عزة الميلاء، وكانت من أشد النساء علما بالموسيقى وكانت تعقد الندوات الفنية في دارها، ويأتي إليها محبو الفن من كل مكان.
سيرين، وكانت مغنية شاعر النبي حسان بن ثابت. سارة، كانت من الثلاث قيان اللاتي أمر النبي بقتلهن لغنائهن هجاء في النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها نجت بإسلامها.