في الحوار الأخير الذي أنجزته جريدة لوموند الفرنسية مع المخرج الفرنسي كلود لولوش، نخرج بخلاصة، وهي أن السينما أحسن من الحياة. هناك القدر الذي لعب دورا كبيرا في أن تصبح حياة هذا المخرج فيلما حقيقيا. اذ شاءت الظروف أن تصبح قاعة السينما منطقة هروب وأمان، حينما عادت الأم من الجزائر إلى فرنسا لتكون بجانب أختها التي توشك أن تضع مولودها الأول، فاصطحبته معها في سنوات الاربعينات، لتدخل في مغامرة شرسة لإخفاء هذا الطفل ذو الأصول اليهودية.
يتذكر كلود لولوش أمه التي اضطرت أن تعهد به إلى قاعة السينما كي يلوذ بأحضانها حتى يكون في مأمن وبعيدا عن أعين الجيستابو آنذاك. كان يشاهد الأفلام لعدة مرات في انتظار عودة الأم المجبرة على البحث عن طريق للعودة للجزائر وعن مكان يأويها لليلة أوليلتان في تحايل يومي بعيدا عن أعين المخبرين.
تمر الأيام لتظل السينما في دواخله هي المأوى والمهجع، وبما أن أباه كان يتوفر على كاميرا استعملها في تصوير ابنه يوم ولادته وكذلك في سنوات طفولته الأولى، فقد عهد له بها له بعدما تأكد له شغفه بالسينما. كان الأب كما لو أدرك أن السينما هي مصير حتمي لهذا الطفل المشاكس. إذ في إحدى الليالي بعدما يئس من مستواه التعليمي المتواضع، أسر لزوجته أنه سيتركه ليتدبر أمره مع السينما.
لتبدأ إذن تجربة الخمسون فيلما وهي حصيلة هذه المغامرة السينمائية اللصيقة بروح سينمائي عصامي مثل لولوش.
يتذكر بمرارة قصوى حينما ساعده اباه في إنتاج متواضع لفيلمه “le propre de l’homme” سنة 1966، والذي استقبل أثناء عرضه بالسب والاستهزاء طوال ساعة ونصف من عرضه. كما أن صحافيا كتب قائلا أن هذا المخرج لن تسمعوا عنه شيئا في المستقبل بعد عرض فيلمه الرديء. وبعد أيام قليلة ساءت أحوال الأب ليلفظ أنفاسه بين يدي ابنه كلود لولوش والذي أحس أن فيلمه هو الذي أجهز على ابيه خاصة وأنه لم ينس مشهد بكاء والديه داخل قاعة العرض وهما يقفان عاجزين عن الدفاع عن ابنهما. هذه التجربة المرة كانت بمثابة دفعة قوية لأخد القرار الصعب. لكن السينما كانت أقوى لدفع هذا المخرج إلى الإقامة في قلب قطبي الفشل والنجاح. ليتمكن بفيلم “رجل وامرأة” من الحصول على السعفة الذهبية وجوائز أخرى لم يتخيل في يوم ما الحصول عليها كالأوسكار لأحسن سيناريو…
طوال تجربته السينمائية، كان كلود لولوش يعرف أنه رغم عدم انتمائه للموجة الجديدة، كما أنه لم يكن يساريا فقد عمل في منطقة أخرى يعتبرها تلك السينما التي تحكي ببساطة وبأحاسيس حقيقية. لم يحقد على كل الذين قالوا له لا، ولا هؤلاء الذين رفضوا مشاريعه، بل إنه يشكرهم، لأنهم فتحوا له أبواب لقاء أناس آخرين فتحوا له طريق إنجاز كل هاته الفيلموغرافيا السينمائية.
يظل كلود لولوش ذلك الطفل الصغير الذي احتمى بالظلام الذي تمنحه القاعة السينمائية حتى لا تقتنصه أعين القتلة. لكن في عمق الظلام كان نور السينما يحمله بعيدا إلى عوالم جميلة في انتظار عودة الأم.
أليست السينما أجمل من الحياة ؟