
صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “المغرب والجزائر: لا غالب ولا مغلوب”. و نظرا لأهمية المقال، نعيد نشره بالكامل.
بقلم: الكاتب والصحفي عبد الحميد جماهري

تفادى العاهل المغربي محمّد السادس استعمال أيّ لغة انتصار أو “ظفرانية” مبالغ فيها، وهو يتوجّه إلى شعبه بمناسبة قرار مجلس الأمن الذي يكرّس الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية حلّاً قابلاً للتطبيق. وبالرغم من أنّ هذا القرار كان يشكّل أفقَ انتظار المغاربة كلّهم، على الأقلّ منذ 2007، سنة تقديم مقترح الحكم الذاتي حلّاً للنزاع حول أقاليمه الصحراوية نصفَ قرن، فإنّ العاهل المغربي استعمل لغةً بعيدةً عن الفرح (المشروع في مثل هذه المناسبات) واختار كلماته بعناية، وبنى خطابه على ثلاث عتبات؛ الأولى أنّه تفادى وصف قرار مجلس الأمن، بالرغم من قوته في تغيير معايير القضية لصالحه، انتصاراً يتأسّس عليه تأجيج الصراع، وتغذية الخلافات بطبقات جديدة من المشاعر الحربية، وقال وهو يصف ما تحقق: إنّ “المغرب لا يعتبر هذه التحوّلات انتصاراً، ولا يستغلّها لتأجيج الصراع والخلافات”، وعلى طول الخطاب الذي وجّهه عقب إعلان نتيجة تصويت مجلس الأمن، في محطّة اعتبرت حاسمةً في تاريخ النزاع، كانت لغته هادئةً حكيمةً، تتطلّع إلى مدّ الجسور أكثر من الانتشاء باللحظة، الذي قد يُفسَّر على نحوٍ سيّئ في الجوار.
العتبة الثانية التي تحكّمت بالموقف الملكي، تجلّت في استحضار الثابت في التعامل مع إسقاطات القرار الأممي على المناخ السائد في الجوار، واكتفت كلمات الخطاب بتأطير اللحظة السياسية من حيث “حرص المغرب على إيجاد حلّ لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف”، وهو موقفٌ كان العاهل المغربي قد عبّر عنه في اللحظة السابقة للقرار، بمناسبة خطاب العرش في 29 يوليو/ تموز الماضي، إذ ركّز، بالحرص نفسه، على تفادي منطق الغالب والمغلوب في تقدير الموقف النهائي للنزاع. وختم القاعدة الثلاثية في محاولة بناء مناخ جديد في منطقة المغرب الكبير، بتجديد الدعوة إلى الرئاسة الجزائرية من أجل الحوار الثنائي. وقد التقط الوسط الإعلامي والسياسي لغة الملك الأخوية في هذه الدعوة، إذ قال: “أدعو أخي فخامة الرئيس عبد المجيد تبّون، إلى حوار أخوي صادق، بين المغرب والجزائر، من أجل تجاوز الخلافات وبناء علاقات جديدة، تقوم على الثقة وروابط الأخوّة وحسن الجوار”. وهي الدعوة نفسها التي سبقت تصويت مجلس الأمن بقرابة ثلاثة أشهر، ما يعني أن الحالة الذهنية والشعورية هي نفسها في تقدير الموقف المغاربي من لدن المغرب، مع تجديد التركيز على “مدّ اليد لأشقائنا في الجزائر”، وتأكيد “استعداد المغرب لحوار صريح ومسؤول حول مختلف القضايا العالقة بين البلدَين”.
ولم تخلُ لحظة من اللحظات عالية الضغط من هذا الاختيار عند الملك، منذ توليه العرش في 1999، سواء في الفترة التي كان فيها الراحل عبد العزيز بوتفليقة يتولى قيادة البلاد أو بعد مجيء الرئيس تبّون، الذي يعتبر محمّد السادس أنه وإياه ورثا مخلّفات قرارات سابقة عنهما، وإنْ كانت “المسؤولية الأخلاقية” للقيادتَين كلتيهما حاضرةً في الخطاب السياسي. تكرّرت دعوات اليد الممدودة، كما أصبح يطلق عليها في المتن الإعلامي السياسي، ما لا يقل عن عشر مرّات طوال 26 سنة من حكم محمّد السادس، ولعلّ أقواها، وأكثرها تفصيلاً، تلك التي قدّمها الملك في سنة 2018، حين ارتقت الدعوة إلى مرتبة خطّة عمل قائمة على إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور يُتَّفق على تحديد مستوى التمثيلية فيها، وشكلها وطبيعتها، والانفتاح على الاقتراحات والمبادرات التي قد تتقدّم بها الجزائر، بهدف تجاوز حالة الجمود، والانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية، وصدق وحسن نيّة، وبأجندة مفتوحة، ومن دون شروط أو استثناأت، وآلية تشكّل إطاراً عملياً للتعاون، وتعزيز التنسيق والتشاور الثنائي في مواجهة التحدّيات الإقليمية والدولية. ومن سوء حظّ المنطقة المغاربية أن الوضع لم يتطوَّر في هذا الاتجاه، وظلّت رسالة ملك المغرب من دون جواب، بل إنّ الوضع عرف لحظات توتّر وضعت المنطقة فيها يدها على قلبها، عندما تراكمت نذر الحرب في الخطاب وفي الجو النفسي بين البلدَين.
في واقع الأمر، تكرّرت الدعوات الملكية، في خطب العرش بمعدّل مرّة كل سنتَين تقريباً. ولافتٌ للنظر أن خطابات الملك وتشبثه بالبعد المغاربي وتسوية الخلافات مع الجزائر كانت أحياناً تبدو “متعارضةً” مع المناخ داخل البلاد نفسها، وتلطف من المشاعر المتأجِّجة، سلباً وإيجاباً. مثلاً، في خطاب العرش في يوليو/ تموز 2021، كانت التوقّعات تنذر بخطاب حادّ بالنظر إلى درجة الاحتقان التي عرفتها المناوشات بين البلدَين، وبين إعلامهما والطبقة السياسية فيهما، والسباق نحو التسلّح و”حرب انفصاليي الريف والقبايل” الدبلوماسية وغيرهما. ولعلّ ما يحضرنا هنا هو مثول وزير الخارجية المغربي، أمام البرلمان في ذلك الحين، إذ صرّح بواضح العبارات أنّ “الجزائر تخطّط لمواجهة عسكرية مع المغرب”. وكانت العبارة صدىً لعبارات سبقتها عن الحرب. أولاها ما قاله الرئيس الجزائري نفسه، عبد المجيد تبّون، قبل إعادة انتخابه، فورد على لسانه في مقابلة مع صحيفة لوفيغارو الفرنسية (30/12/2022) أن “قطع العلاقات مع المغرب كان بديلاً من الحرب معه، والوساطة غير ممكنة بيننا”، في تبرير بَعْدي لقرار قطع العلاقات مع المغرب في أغسطس/ آب 2021. وعبارة الحرب صدىً لما كتبه المؤرخ عبد الله العروي في كتابه الصادر أخيراً “دفاتر كوفيد” أنّ “الحرب بالنسبة إلى الجزائر جارية. وسيكون من السخافة الاعتقاد أن سياسة الجزائر الحالية لا عقلانية، أو أنها من فعل سياسيين جهلاء أو عسكريين يخرِّفون، وأن حكّاماً أقلّ سنّاً قد يديرون وجوههم عنها… هذا وهم خطير”. وقد كانت الحمولة التوافقية التي طبعت خطاب العاهل المغربي (وقتها) عكس المنتظر، كما هو الحال في لحظات الفرح القصوى اليوم، التي كانت تعبيراتها متنوّعةً، إذ استحضر الملك الموقف المُؤطِّر لعلاقته مع الجزائر، من خلال تلطيف مشاعر الفرح المتأجّجة أيضاً، كي لا يُساء تأويلها من الجهة الشرقية للحدود.
ولعل ما سبق قوله يُسقط عن دعوة الملك الجديدة ارتباطها بالتحرّك الأميركي في المنطقة، ولا سيّما بعد حديث ستيف ويتكوف مبعوث الرئيس ترامب عن وساطة في آجال 60 يوماً للوصول إلى “اتفاق سلام” بين البلدَين. وهو التصريح الذي عزّزه ما قاله كبير مستشاري ترامب نفسه في قضايا الشرق الأوسط وأفريقيا، مسعد بولوس، عن تحرّكات تعمل لإيجاد جو من التعاون، موازاةً مع قرارات مجلس الأمن حول الصحراء، أو تأميناً لما بعده ربّما. ولعلّ التسمية لم تكن دقيقةً، وأثارت جدلاً، حتى إنها اعتبرت أن المسؤولين الأميركيين يتحدّثون عن “اتفاق سلام لحرب لم تقع”. لكنّها فتحت سؤال الوساطة الدولية، أو الخارجية، والعربية منها خصوصاً، التي ظلّ الطرف الجزائري يرفضها، في حين كان الطرف المغربي، وعلى لسان ملكه، يفضّل عليها المعالجة الثنائية. وهو ما نصّ عليه خطاب ملكي سابق عن حوار “من دون أطراف خارجية”، وأعاد وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، تأكيده بعد قرار مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي، فأكّد أن “العلاقات بين المغرب والجزائر لا تحتاج أيّ وساطة خارجية”، مشدّداً، في الآن نفسه، على أن “الحوار المباشر هو الطريق الأمثل، معلّلاً ذلك بأن “لا أحد يفهم الجزائر كما يفهمها المغرب، ولا أحد يعرف المغرب كما يعرفه جاره الشقيق”.
ويمكن تأطير مهمّة الأميركيين بأنها تهدف إلى خلق أجواء مساعدة عوضَ وضع جدول أعمال للمشاورات الثنائية أو تحديد آفاقها النهائية. ولعلّ هذا ما يسير فيه قول مسعد بولس إنه عقد “لقاءً ممتازاً مع فخامة الرئيس (عبد المجيد تبّون)… هم يريدون حلاً حاسماً ونهائياً، وهم منفتحون على تحسين العلاقات مع جيرانهم، مع المغرب، شعباً وملكاً وحكومةً… نحن اليوم أكثر تفاؤلاً من أيّ وقت مضى بأن هذا الملفّ سيجد، إن شاء الله، مخرجاً إيجابياً ومستداماً”. ولعلّ صدى ذلك هو تصريح بوريطة نفسه أنّ “عودة العلاقة مع الجزائر وحلّ قضية الصحراء باتا أقرب من أيّ وقت مضى، تلزم الإرادة السياسية فحسب”.
في الواقع، لا يعكس اختيار معادلة “لا غالب ولا مغلوب” الإرادة في استبعاد مخلّفات الحروب النظامية وغير النظامية فحسب، بمآسيها وآلامها، بل يستند إلى قاعدة أخلاقية وسياسية تقتضي تفادي دفع الطرف الثاني إلى اليأس من المستقبل، والدفع نحو منطق المصالحة التي شكّلت أحد أعمدة سياسة العهد الملكي الجديد، سواء في الداخل أو في الخارج… ننتظر، ومعنا الشعوب المغاربية، الانتقال من تدبير الأزمة إلى صناعة السّلام.






