
كتبه: سعيد بوعيطة
أجرى العالم الروسي إيفان بافلوف مع مطلع القرن العشرين، تجربة مميّزة، بيّن من خلالها ما يُعرف بـنظرية الإنعكاس الشرطي. فقد لاحظ بافلوف أنه بمجرّد أن يرن الجرس (قبل تقديم الطعام للكلب)، تسيل لعابه، حتى وإن لم يُقدم له الطعام بعد. لأنه اعتاد على إطعامه بعد رن الجرس. بذلك، ارتبط الصوت بالرغبة في تناول الطعام. لهذا، صار الصوت وحده كافيًا لإثارة رد فعل بيولوجي ونفسي في الوقت نفسه.
يبدو أن نموذج بافلوف النفسي المعقد، ينطبق بشكل رمزي على الأحزاب السياسية عند اقتراب كل استحقاق انتخابي. إذ يكفي أن يقترب موعد الاستحقاقات الانتخابية، حتى تبدأ المؤتمرات والتحركات المعلنة منها والخفية وتشكيل التحالفات. كما يبدأ نشر غسيل السياسيين الآخرين على حبال مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل إعلام أخرى. خاصة مع اتساع قاعدة المتابعين الذي تجذبهم الفضائح بأنواعها القديمة والجديدة لأعضاء هذا الحزب السياسي أو ذاك.
الأحزاب السياسية والإنعكاس الشرطي
يظهر هذا الإنعكاس الشرطي جليا، كلما اقتربت مواعيد الانتخابات المحلية أو التشريعية، من خلال السعي والبحث والتخطيط والتعبئة، وتسخير مختلف الوسائل الممكنة. حتى أصبحت هذه الاستحقاقات جرسًا نفسيًا يرنّ في أذهان ممثلي الأحزاب السياسية، ويدفعهم للتخطيط والتصدي للآخر المنافس. خاصة على المستوى الجغرافي (القرى والمدن)، وليس على مستوى البرامج والمخططات السياسية التي تعود بالنفع على البلاد والعباد. لهذا، تحوّل اقتراب هذه المواعيد، بما تحمله من صراعات خفية ومعلنة، إلى أداة غير معلنة تعرقل كل فعل تنموي، وتُقيّد تطلع المواطن إلى برامج سياسية سليمة (إن وجدت). فكما خضعت تجربة بافلوف لمنبّه خارجي حدد سلوك كلبه، تخضع الأحزاب السياسية لمنبّه داخلي أشد تأثيرًا. حيث يقودها هذا التأثير إلى إعادة تشكيل مواقفها ومواقعها، ويجعل بعض أعضائها يختارون الترحال السياسي، على الرغم من أن” أولاد عبد الواحد كاع واحد” كما يقول المثل المغربي. لأن هذا الانعكاس الشرطي يجمد قرارات الأحزاب، ويمنعها من الإنكباب على رسم برامج تنموية مستقبلية، تسعى إلى ما ينفع الناس.
لكن الفرق الجوهري بين تجربة بافلوف النفسية، وتجربة الأحزاب السياسية، يكمن في كون هذه الأحزاب هي التي تُبرمج نفسها بنفسها، وتساهم بنفسها في تأزم المشهد السياسي من حيث حضورها في حياة المواطن قبل وبعد، وأثناء كل استحقاقات. إذ بدلاً من أن تعمل على إعادة بناء واقع سياسي جديد وملائم، تستمر في حالة الإنعكاس السياسي الشرطي. مما يقود المواطن للنفور والعزوف عن الممارسة السياسية والانخراط فيها. مما يُطيل كذلك عمر الأزمة الداخلية للأحزاب السياسية. لهذا، فإن تجاوز حالة كلب بافلوف، تتحقق من المشاركة الفعلية/الحقيقة في الشأن السياسي العام، والتحلي بمواقف وطنية، من شأنها فرملة ومنع الحالة المرضية (النفسية) التي وصلت إليها الأحزاب السياسية.
من أجل تجاوز حالة الإنعكاس الشرطي
اليوم بات الجميع يدرك أن إصلاح الشأن الحزبي بما يخدم البلاد والعباد، هو المخرج الوحيد لحل أزماته وعجزه عن استقطاب المواطن، وعلى الرغم من أن الحل الواقعي لهذه الأحزاب، ليس بسيطًا ولا سحريًا، لكنه في الوقت نفسه ليس مستحيلاً. وكما أن بافلوف استطاع أن يُعيد برمجة تجربته عبر كسر الرابط بين الصوت والطعام، يمكن للأحزاب أن تعيد برمجة نفسها إذا وُجدت لديها إرادة سياسية حقيقية، وتستبدل قيادييها الذين أكل عليهم الدهر وشرب، بغيرهم، وكذا استبدال المراوغة السياسية بالوضوح والشفافية.
لكن مهما كان الأمر، فإن واقع حالنا السياسي، يؤشر على أن العقل الحزبي السياسي يعاني ضعفا بارزا، ناتجا عن ضعف ذاكرته الانتخابية، وعدم جاهزيته التنظيمية لسد المنافذ التي وظفت في مختلف الاقتراعات السابقة، ومن ارتهان الأحزاب إلى تمويل الدولة (المال العام) من أجل خوض الحملة الانتخابية. ونظرا لما يشوب هذا الدعم من اختلالات. مما يؤشر على أن مطالبة الأحزاب السياسية من توسيع الدعم المالي من أجل استحقاقات 2026، يجعل من هذا الأخير، خادما لمصالحها، وليس من أجل خلق مناخ استحقاقي مستقر وعادل، وممارسة فعل سياسي سليم. فهل تستطيع أحزابنا السياسية تجاوز حالة كلب بافلوف، أم ستظل دار لقمان على حالها؟


