فنون و ثقافةفي الصميمكتاب الرأي

شارع سان ميشال… حيث تموت الثقافة مختنقة في العتمة، والمنفى يصير نعشا للهوية

باريس ـ زكية لعروسي

بقلم: زكية لعروسي

“الثقافة هي ما يبقى حين ننسى كل شيء” قالها أندريه مالرو، وكأنّه تنبأ بفضيحتنا الكبرى. ففي قلب باريس، مدينة الضوء، حيث تهب الثقافات مثل الريح، يبقى عنوان واحد مطموسا، كأنه لعنة: 115 شارع سان ميشال. العنوان الذي تحوّل من حلم إلى هلام، ومن مركز إلى مقبرة مغلقة بإحكام. يافطة تذبل كل عام، باب لا يطرق، نافذة لا تنظر منها سوى الأشباح، وكل من يسأل عن المركز الثقافي المغربي، يجاب بعبارة تليق بالمقابر: “سيفتح قريبا”. قريبا؟ قريبا منذ أكثر من عشر سنوات؟ قريبا الذي أصبح نكتة ثقيلة في صالونات الفكر؟ أي عبث هذا؟ أي بيروقراطية عقيمة تقيم الحدّ على الثقافة؟ أي شهوة للفراغ تنخر قراراتنا؟

في الوقت الذي تفتح فيه كل الدول أبوابها الثقافية في باريس، نحن نحرس جثة المشروع المؤجل. العراق تشق صوتها الثقافي، تونس ترفع منبرها، سوريا، رغم الحرب، تقيم حفلتها على مسرح النور، لبنان، المثقل بالكوارث، ما زال يرقص على إيقاع الفنّ. أما المغرب؟ أما نحن؟ فنكتب عنواننا في الضباب، ونرسم ثقافتنا على زجاج مغلق منذ سنين. نحلم بمركز ثقافي كما يحلم المتشرد بمنزل. حتى اصبحنا نحن أبناء المركز الشبح…

“115 شارع سان ميشال” لم يعد عنوانا، بل كابوسا يتكرر. تحوّل إلى مرآة تعكس هشاشتنا في سياسة الثقافة، وجبننا، ورغبتنا العميقة في تأجيل كل شيء جميل. كم مسؤول وعد؟ كم سفير صرّح؟ كم لجنة اجتمعت فقط لتضيف ورقة جديدة إلى أرشيف النسيان؟ مرت أجيال ونحن نحرس هذا السراب، جيل قرأ يافطة الإنشاء المؤقت، جيل اعتقد أن المبنى مهجور، وجيل ثالث نشأ وهو يظن أن المركز خرافة تتداولها النخبة كإحدى حكايات الجنّ في ليالي الشتاء. باريس، ليست فقط عاصمة فرنسا… بل عاصمة الذاكرة البشرية، مدينة لا تسامح الغائبين، ولا تعترف بالصامتين.

باريس التي تحتضن ثقافات جزر لا ترى على الخريطة، تدير ظهرها لبلد له آلاف المبدعين والمفكرين والمهاجرين.
أليس هذا خذلانا مزدوجا؟ نحن لا نطالب بمستحيل. لا نريد مآدب رسمية، ولا زركشات دبلوماسية، نحن نريد فقط أن نتنفس هويتنا، نريد جدرانا تحمل صورنا، مقاعدا نستمع فيها إلى قصائدنا، قاعات نعرض فيها أفلامنا، وبيتا ثقافيا لا يشبه المقبرة.

إن الثقافة في المنفى ليست ترفا… بل أوكسجين الحياة. قال عبد الرحمن المسكيني:
“الهوية لا تنحت من الدم، بل من الحبر.”

ونحن نحمل الحبر في الجيوب، لكننا بلا دفاتر. بلا منابر. بلا مكان. في الغربة، حين تصمت الثقافة، تتكلم الغربة بلسان النسيان. تتحول باريس من منفى طوعي إلى ثلاجة لهوية مجمدة، لا أحد يسأل عنها، ولا أحد يوقظها. الفن يتحول إلى صرخة في زجاجة، الحكايات تتآكل في الصدور، والجيل الجديد ينمو دون مرآة يرى فيها ملامحه المغربية. قالها إدوارد سعيد: “من لا يسكن ثقافته، يسكن ثقافة غيره كلاجئ” أن نغيب عن الخريطة الثقافية في باريس، هذا ليس إهمالا بسيطا، إنه انتحار رمزي. إنه طعن في شرف الانتماء.

نحن لا نطلب أكثر من حقّ طبيعي: أن يكون للمغرب مفتاح في باريس، باب يفتح، أن يصبح 115 شارع سان ميشال عنوانا حقيقيا لا لعنة تاريخية. قال أحد الحكماء: “المثقف الذي لا بيت له، هو مثقف يمشي حافيا فوق ذاكرته.” وهذا حالنا بالضبط: نبدع، نكتب، نغني، ونرقص في صمت… لكن لا أحد يرى، لأن لا أحد فتح النوافذ.

افتحوا الأبواب الآن… لا غدا ولا “قريبا” كفى دفنا لهذا المشروع تحت تراب المحاضر والاجتماعات. كفى تصفيقا في الحفلات الرسمية بينما الجدران فارغة من أي حياة.

115 شارع سان ميشال… يجب أن يضاء. لا نريد أن تبقى ثقافتنا على الرصيف، تتسول مقعدا في مهرجان الآخرين.
نريد مركزنا حيّا، لا شبحا. نريد أصواتنا مسموعة، لا هامسة في الزوايا.

افتحوا الأبواب. فإن لم يكن للثقافة المغربية موطئ في باريس، فأين؟ وإن لم يكن اليوم، فمتى؟ أيها المسؤولون: أنتم لا تؤجلون افتتاح مركز، أنتم تؤجلون ذاكرة. أنتم لا جرحا مفتوحا في روح كل مغربي في الخارج.

افتحوا الأبواب. افتحوها الآن، ولا تكتفوا بقول: “سيفتح”، فقد صرنا نحلم بالأشباح… أكثر من الأحلام. كفى دفنا للمشروع تحت أكوام الملفات والنسيان. كفى تصفيقا في الحفلات بلا أثر على الأرض. ارفعوا الغطاء عن هذا الشبح! نريد مركزنا الثقافي حيا، ناطقا، نابضا، مفتوحا.

115 شارع سان ميشال… يجب أن يضاء. فمن المعيب أن تبقى ثقافتنا على الرصيف، فيما ينتظرها منزل لم يفتح منذ سنوات!

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci