في الصميمكتاب الرأيمجتمع

الحلقة الثانية من سلسلة «أمي خِيرة على حافة العقل المغربي» .. الجامعة في زمن «التيك توك»

حين صار الأستاذ... «بلوغر في الليل»

بقلم: زكية لعروسي

منذ أن صار الأستاذ الباحث يحتسي “أمريكانو” على الستوري، ويشرح نظرية ابن رشد في دقيقة ونصف على “ريل”، أدركت أمي خيرة أن الكارثة نزلت بثقلها. قالت لي، وهي تمسح شاشة الهاتف بعينين دامعتين: “يا بنتي، حتى العلم ولى فيه الفيلتر… الله يحسن عوان اللي ما زال تيقرا من كتاب صغير بالحروف الضايعة!”

أي جامعة هذه التي رفعت الراية البيضاء أمام “تاتش إكسبريس”، وأصبحت تنوّه بمن يحاضر في القاعة بـ”البرزاط”، ويشهّر بها ليلا على “تيك توك”؟ كيف انقلبت البوصلة، حتى صار الباحث باحثا عن “البارتاج”، لا عن الحقيقة؟ عن عدد المشاهدات، لا عن عدد الأسئلة الفلسفية؟ ما جدوى المؤتمرات الأكاديمية إذا كان الأستاذ يقيس نجاح محاضرته بعدد “اللايكات”، لا بعدد العقول التي أنارت؟ ما معنى أن يفتتح درس في فلسفة المعرفة بـ: “السلام عليكم أحبابي، ما تنساوش اللايك!” وأين الفرق بينه… وبين بائع كيراتين في سوق “الريلز”؟ تشهق أمي خِيرة بحسّها الشعبي العميق: “فين مشى أستاذي عمك سعبد الكبير؟ كان وجهه مبلّلاً بالطباشير… ماشي بالكريم الواقي من الشمس!”

نحن في زمن صارت فيه الجامعات تفضل صانع المحتوى على صانع الفكر. في زمن نقلت فيه الحصص الدراسية إلى “لايف تافه”، واختزلت فيه المعرفة في “ستوري” مسعور نحو الشهرة، لا نحو الإضاءة. تقول أمي خيرة، بحكمة بسيطة وعميقة: “اللي كان كيقرّيك ابنتي على السبورة، ولى كيصوّر مع السبورة.وكاين فرق كبير بين اللي قاصد العقل، واللي قاصد التعاليق.”

فمن المسؤول عن هذه “الميوعة الأكاديمية” يا قارئي؟

الأستاذ الذي خلع جبة المعنى ولبس عباءة التأثير؟ أم المؤسسة التي تبارك الانحدار بصمت أنيق؟ أم المجتمع الذي يعتبر أن كل شيء يجب أن يترند… حتى فلسفة الوجود؟ وأنا أقولها بصوت أمي خيرة: نحن نحتاج إلى زلزال يعيدنا من إنستغرام إلى المكتبة، من الفلتر إلى الفكر، من “المحتوى الخفيف” إلى المعنى الثقيل. لأن الأمم لا تبنى بهاشتاغ، بل تبنى بالفكرة الصامتة التي تربي… لا تروّج.

ما بين شفاه تلوّن الدروس على أنغام “بيانو درامي”، و”فلترات” تحوّل وجه الأستاذ إلى “قطة حكيمة”، صرخت أمي خيرة وهي تهز رأسها: “العلم مات… ودفنوه فالستوري!” الجامعة لم تعد محرابا للمعرفة، بل مسرحا لـ”التمثيل الأكاديمي المصوّر”. حيث صار الطالب يتعلم “المنهج البنيوي” وسط تحدّي الرقص، ويجيب عن “أفلاطون” بتقنية “الرد السريع”. صار التخرّج مهرجان ريلز، لا ثمرة سهر ليال ومرارة المكتبات.

تضع أمي خيرة يدها على خدّها، وتقول: “كنت نحسب اللي كيدير فيديوهات هو كرّاب الزريعة… ماشي أستاذ العلم والقلم والدواية!”

نعم، إنه عصر الرقمنة. لكن لا رقمنة للمعرفة، بل رقمنة للهواء. حيث تُسحق هيبة الجامعة بين “لوغو” القناة الشخصية للأستاذ، وبين مؤثرين يقدّمون أنفسهم بـ: “باحث في الفكر… ونص طاجين.”

أساتذة يدرّسون “الفكر النقدي” صباحا، ويبيعون “كبسولات الوعي” مساء على تيك توك. طلبة يُكلّفون ببحث حول ابن خلدون، فينتهون بتلخيصه على إيقاع “غادي نجيكم بواحد الخلاصة!” أين ذهبت الورقة؟ أين ذهبت المنهجية؟ أين ذهب “التحليل والتركيب”؟: “يا حسرة على اللي كانو كيخيطو الأطروحة بحرير العقل…ماشي بخيط الأنترنت!” والأدهى؟ الإدارات صامتة.
كأنها تبارك هذا الانزلاق ما دام يحصد “اللايكات” ويظهر الجامعة “مودرن وعصرية”.

لكأن المعرفة أصبحت ماركة يجب تسويقها، لا رسالة يجب حملها. فهل نحن نشهد موتا بطيئا للمعنى؟ هل نحيا زمنا تهزم فيه الجدية أمام الجاذبية؟ زمن “العقل اللايف”،حيث يبثّ العلم… ويدفن في اللحظة ذاتها “بغينا غير نهار يدخل فيه الطالب للكلية، ما يسوّلش: أشنو ترند اليوم؟ ويسوّل: شكون كتب آخر حاجة على الفكر… والعقل… والإنسان.” أمي خيرة يا قارئي العزيز ، في بساطتها، ترى ما لا تراه لجان التقييم.

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci