أخبارفنون و ثقافةكتاب الرأي

ثورة بلا سلاح: كيف نحرر العقل العربي من سطوة الموروث؟

بقلم: زكية لعروسي

حين نُطلّ من نافذة الحاضر على خريطة الفكر العربي، يبدو المشهد باهتا، كأن الزمن توقف عند حدود قديمة لا تريد أن تغادر. تبدو الفجوة هائلة بين ما نطمح إليه وما نحن عليه. حضارات تنهض من حولنا بسرعة الضوء، بينما نراوح نحن في مكاننا، محكومين بسلطة الموروث، وسحر البلاغة، وشبح الطاعة.

لسنا فقراء إلى الماضي، بل أغنياء به، وربما أثقلنا بذلك الغنى. التراث الذي كان منبعا للهوية، صار في كثير من الأحيان سورا يعزلنا عن اللحظة الراهنة. الدين الذي شكّل وجدان الأمة، أصبح في بعض وجوهه حائطا يغلق به باب النقد، لا نافذة نطلّ منها على القيم.

إننا في حاجة إلى لحظة توقف عميقة، لا لنجلد الذات، ولكن لنفهمها. هل مشكلتنا في العقل الذي يفكر، أم في المفاهيم التي يستند إليها؟ هل نحن أسرى الدين، أم أسرى فهم متكلّس له؟ هل القبيلة والقومية والدين تشكّل أصفادا للفكر؟ أم أدوات يمكن إعادة صياغتها؟

هذه الأسئلة ليست ترفا فكريا، بل هي الشرارة الأولى لأي مشروع نهضوي حقيقي. وفي هذا المقال، نحاول مقاربة هذه الإشكاليات من خلال تفكيك البنى التي شكّلت “العقل العربي”، مستندين إلى رؤى مفكرين كبار كالجابري وأركون وأدونيس والعروي، لنسأل: هل الخلاص في القطيعة؟ أم في المصالحة النقدية؟ وهل نحن مستعدون لثورة تبدأ من داخل الفكر لا من خارجه؟

أحد أهم مفاتيح فهم هذا الركود هو ما يعرف بـ “العقل البياني”، الذي كشفه محمد عابد الجابري في مشروعه نقد العقل العربي. يقول الجابري: “العقل البياني يهتم بالشكل أكثر من المضمون، بالصيغة أكثر من الحقيقة، بالكلام الجميل لا بالفكرة الواضحة.”

إنه عقل أسير النص، يهاب السؤال، ويخاف الاختلاف. في ظل هذا العقل، تحوّلت البلاغة إلى قيد فكري، وأصبحت اللغة سلطة، لا وسيلة للمعرفة. بتعبير آخر العقل البياني بلاغة تحجب الفكرة.

في المقابل، يقف أدونيس كمفكر وشاعر ومتمرّد على الموروث. يرى أن أي مشروع نهضة لا يمكن أن يبدأ من داخل التراث، بل من خارجه. في كتابه الثابت والمتحوّل، يكتب: “الثقافة العربية التقليدية قامت على الحظر والتقديس، لا على الشك والتمحيص. ولا يمكن تجاوزها إلا بقطيعة معرفية جذرية.” هو يدعو إلى تحرير العقل العربي من سلطات ثلاث: السلطة السياسية، السلطة الدينية، وسلطة الماضي. ويؤمن أن الموروث، كما يمارس اليوم، لم يعد مصدر إلهام، بل صار عبئا على التفكير.

بعكس أدونيس، يطرح الجابري في كتابه تكوين العقل العربي، ضرورة “تفكيك” التراث لا هدمه. ويقول: “نحن لا نحتاج إلى قطيعة مع التراث، بل إلى إعادة بنائه وفق شروط العصر والعقل البرهاني.”

بينما يدعو محمد أركون، في مشروعه المسمى نقد العقل الإسلامي، إلى علمنة العقل دون إلغاء الدين، من خلال إعادة قراءة النصوص المؤسسة بعيون علمية وإنسانية. يقول: “يجب تحرير الفكر الإسلامي من الرؤية الفقهية المغلقة، والانفتاح على العلوم الإنسانية الحديثة دون خوف من التجديف.”

فهل يجب إذن قطع العلاقة تماما مع مفاهيم القبيلة والقومية والدين؟ أم يمكن إعادة توجيهها كأدوات بيد العقل؟ يرى المفكر المغربي عبد الله العروي أن الحل لا يكمن في الهروب من هذه البنى، بل في عقلنتها، ودمجها داخل مشروع حداثي: “لا معنى للقومية، ولا للهوية، ولا حتى للدين، خارج مشروع التحديث الشامل الذي يضع الإنسان في المركز.”

وهنا يطرح البديل: عقل نقدي مركب، لا يُقدّس التراث، ولا ينبذه، بل يخضعه للفحص، ويعيد إنتاجه وفق منطق العصر.

إذا كانت السياسة في العالم العربي أسيرة الرأي والقوانين، فإن الفكر هو الأسير الأعمق، لأنه يقيّد الذات من الداخل. ولذلك  فإن النهوض يتطلب أولا ثورة على العقل الكسول، والشجاعة لا على القوانين فقط. ثورة تبدأ بسؤال “لماذا؟” و”كيف؟”، بدلا من الترديد الدائم لـ”قال فلان والعنعنة”.

إن تحرير العقل العربي لن يتم عبر بلاغة أدونيس وحدها، ولا عبر مراوغة التوفيق بين الدين والعقل، بل عبر مشروع نقدي صلب، يعيد بناء الإنسان العربي كمواطن، لا كمقلّد.

إن المأزق العربي ليس مجرد تأخر تكنولوجي أو عجز اقتصادي، بل هو، قبل كل شيء، مأزق فكري ناتج عن تآكل أدوات النقد، وسيطرة المقدّس على المجال العقلي، وغياب مشروع حقيقي لإعادة بناء الذات العربية. لا يكفي أن ندين الماضي، ولا أن نمجّده. فالمعركة ليست بين “السلف” و”الحداثة”، بل بين الجمود والحركة، بين عقل يُعيد إنتاج ما قيل، وعقل يتجرأ على أن يسأل: ماذا لو كان ما ورثناه بحاجة إلى تفكيك؟ ماذا لو أن “الثوابت” ليست ثابتة بطبيعتها، بل ُسّخت بالعادة والسلطة والخوف؟

لقد آن الأوان لتجاوز الثنائية الزائفة بين “التراث” و”التغريب”. آن لنا أن نصوغ نموذجا عقلانيا منفتحا، غير منفصل عن جذوره، لكنه لا يقدّسها. عقلا يزاوج بين البرهان والبيان، بين الإيمان والحرية، بين الانتماء والاختيار. وهنا فقط، نقترب من لحظة التحول الحقيقية… لحظة لا تأتي بانقلاب سياسي، ولا بفتوى إصلاحية، بل بقرار داخلي: أن نجرؤ على التفكير… وأن لا نخاف من الأسئلة. فالعقل الذي لا يسأل، لا يبدع. والمجتمع الذي لا يراجع أفكاره، يظل يستهلك أوهامه، وينتظر ماضيه أن يعود… ولن يعود.

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci