أخبارفي الصميمكتاب الرأي

حين يصبح المهاجر لغزا، والمؤسسة بابا موصدا

بقلم: زكية لعروسي

لقد بلغ رأسي حدود الانفجار، لا بسبب عجزه عن فهم نظرية فيزياء الكم أو الشعر الرمزي، بل لعجزي كمواطنة عن فهم علاقة الأفراد بالمؤسسات. سؤال بسيط، لكنه حارق: هل المؤسسات كائن حي مستقل، أم مجرد هيكل فارغ لا يتحرك إلا بإرادة أشخاص من لحم ودم؟

حين نطرق أبواب “مؤسساتنا” كمواطنين مستقلين، لا بصفتنا أعضاء في “هيئة تمثيلية”، نصبح فجأة كمن يعكر صفو النظام. نُعامل كما لو أننا خرقنا القانون الإداري بمجرد التجرؤ على السؤال، وكأن المواطنة نفسها تحتاج إلى “رخصة استعمال”.

فنجد أنفسنا في مشهد عبثي يشبه حوار الصم والبكم، حيث المواطن يسأل… والمؤسسة تصمت، أو تهمس لمن تعتبرهم “أبناء شرعيين”، تاركة الباقين في العراء البيروقراطي.

فهل صارت المؤسسات أصناما بيروقراطية لا تتحرك إلا لمن يحمل مفاتيح الانتماء؟

نحن لا نسأل عن المستحيل. نحن لا نطلب صدقات ولا عطايا. نحن نسأل ببساطة:

-ما دور مجلس الجالية تجاه أبناء المهجر؟

-من يُسمح له بنشر كتبه؟

-من يختار من يظهر في المعارض، ومن يُدفن صوته في البريد العشوائي؟

-بأي معيار؟ بأي شرعية؟ ومن يجيب عن هذه الأسئلة حين نطرحها؟

لكن الرد الوحيد الذي نحصل عليه هو صمت منيع، باذخ في تجاهله، أخرس في منطقه.

الأسئلة الثقافية اليوم تبدو وكأنها خطر قومي، لا مجرد استفسارات. وكأن من يسأل: “أين نصيبي من الحوار؟” يرتكب جريمة تهدد الأمن المؤسسي، فيُمنع من الاقتراب، ويُحظر من التفكير.

ألسنا نحن من صنع هذه المؤسسات؟ فكيف تحولت إلى قلعة مسوّرة ترفع شعارات الشراكة، وتمارس فعليا ثقافة الانتقاء والاصطفاء؟ هل أصبح صوت الفرد يختزل في “هل تنتمي؟”، لا في “ماذا تقول؟”؟ الوطنية ليست بطاقة عضوية، والانتماء ليس مذنوبية. نحن لا نلعب دور الضحية، بل نطالب بحضورنا الكامل، لا كظل خلف هيئة، بل كصوت مستقل، حر، مشروع. من يمثلنا في المهجر؟ من يتكلم باسمنا؟ بل، من يصغي إلينا دون أن يسأل أولا: “من معك؟ وتحت أي قبعة أتيت؟”

لقد أمضيت شهورا قارئي في الدوران داخل دائرة مغلقة: رسالة تحال إلى مسؤول، إيميل يحال إلى لجنة، تحال إلى صمت، ثم يقال لك بأدب: “آسفون، هذا ليس من اختصاصنا”، وكأن المواطن اختراع لم تحسم صلاحيته بعد.

المؤسسات، كما نقرأ في الأدبيات، وُجدت لخدمة الناس. لكن في واقعنا، أصبحت مدججة بآليات الصدّ، لا الاستقبال.

عزيزي القارئ، حين تتحول المؤسسات إلى متاهات بيروقراطية لا يدخلها إلا من يحمل جواز الانتماء، فاعلم أنك لم تعد في بلد يصون المواطنة، بل في مزرعة تحكمها نُخَب تمثيلية توزع الشرعية كما توزع الجوائز في مهرجانات المناسبات.

أما نحن، أفرادا بلا هيئة، فلا صوت لنا، ولا مرآة تعكس حضورنا. إلى متى؟ إلى متى سيبقى صوت المثقف الفردي في هذا المهجر سؤالًا مؤجلًا؟ إلى متى ستظل المؤسسات صمّاء أمام سؤال واضح: “هل يحق للمواطن أن يُخاطب مؤسساته بلا وسيط؟” لسنا نطلب امتيازا، نطلب فقط كرامة السؤال، وحق الجواب.

نطلب مؤسسات لا تتعامل مع الفرد كإزعاج، ولا مع المواطن كضوضاء. مؤسسات لا تتحرك فقط عندما يدق بابها وفد أو هيئة أو لوبي مصغر من “المعروفين”. نحن لا نريد في المهجر أبوابا تفتح بالمحسوبية وتغلق في وجه المجهولين، بل مؤسسات تبنى على فكرة المواطنة لا الولاء.

نحن أبناء المهجر، نحتاج إلى وطن لا يُعرّف بالحدود، بل يُجسَّد في الاستماع، في الاستجابة، في تمكين من يريد أن يشارك… لا من يصفق فقط.

فهل من مؤسسة، واحدة فقط، تملك شجاعة الاعتراف بهذا الخلل؟ وهل من مسؤول، واحد فقط، يملك جرأة الرد على مواطن المهجر، لا على ممثّله؟

أم أن الحلقة ستستمر… وسنظل نُدار بالرموت كنترول المؤسسي، كلما تحدثنا صُفعنا بالصمت، وكلما اقتربنا قيل لنا: “أنت لست من الجماعة.” أعيدها مجددا: الوطن لا يُدار بالوصاية. والمؤسسات لا تُبنى على المجاملة…

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci