«بين الأسرة والمؤسسات: السياسة فن إخماد اللهب وصناعة النظام»

بقلم: زكية لعروسي

في عمق الحياة الأسرية، حيث يتناغم الحب والمسؤولية، وحيث تتصارع الأدوار وتتحد، يولد مختبر صغير يعكس صورة مصغرة من المشهد السياسي الكبير. هكذا تبدأ حكاية السياسة، ليس من قاعات البرلمانات ولا من مكاتب السلطة، بل من ذلك البيت الذي يُرسخ فينا أولى مبادئ القيادة والاختلاف.

نشأتُ في عائلة مغربية تمثل بحد ذاتها مجتمعًا صغيرًا، مليئًا بالتنوع في الشخصيات والأدوار. كل فرد في هذا الكيان الأسري كان مدرسة قائمة بذاتها. أمي، رغم أميتها، كانت شجرةً عريقة تجسد الحكمة الفطرية والذكاء العملي، علمتنا أن الصمود فضيلة، وان “الشجر يموت وهو واقف” كما يقول عبد الرحمان منيف. زوجة أبي الأولى، “أمي الطاووس”، كانت، وما زالت رمزًا للصبر وبرودة الأعصاب، توازن بين القوة الداخلية والرصانة الخارجية. أما والدي، فكان المعلم الأول لسلطة الحزم واحترام القواعد، قائدًا بنظامه، لا يعرف التفريط.

في ظل هذه المنظومة العائلية، تعلمت أن السلطة ليست بالضرورة تسلطًا، وأن المرونة ليست خضوعًا، بل هي أدوات تخلق توازنًا حقيقيًا في صياغة شخصية قيادية متزنة. وكما قال أفلاطون: “المدينة الفاضلة تبدأ من البيت الفاضل”، فإن الأسرة هي المدرسة الأولى التي تنحت معالم القيادة في قلوبنا وعقولنا.

البيت هو المسرح الأول الذي يُدرّبنا على فنون التفاوض وإدارة الأزمات وتوزيع الأدوار. هناك، يتجسد الأب كحاكم، يمارس سلطته بحزم، بينما تقوم الأم بدور الدبلوماسي الحكيم، تعالج التوترات برؤية واسعة ومرونة خلاقة. ومع ذلك، قد تغيب الديمقراطية أحيانًا، حيث تفرض العاطفة والتقاليد قيودها، لكنها تبقى نموذجًا تمهيديًا يمهد لقيادة مسؤولة.

حين نخرج من إطار الأسرة إلى فضاء المؤسسات، نجد أن السياسة تصبح أكثر تعقيدًا وثقلًا. لم تعد مجرد لعبة بين القيم والقواعد، بل عبئًا أخلاقيًا يفرض علينا الالتزام بأمانة المسؤولية. يقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا” (النساء: 58)، وهو نداء إلهي للعدل والحكمة في القيادة.

السياسي الحقيقي، كما وصفه أرسطو، هو من يسعى لتحقيق الخير العام، حتى لو تطلب ذلك التنازل عن طموحات شخصية أو اتخاذ قرارات غير شعبية. هنا تتجلى عظمة القيادة: في التوازن بين خدمة المصلحة العامة والحفاظ على القيم الأخلاقية. السياسة ليست مجرد ممارسة للسلطة، بل فنٌ متشابك بين الالتزام بالمبادئ والديناميكية في التعامل مع المتغيرات. في قلب هذا الفن، يتعلم السياسي الماهر كيف “يعطي لقيصر ما لقيصر” دون أن يُفرط في أصالته وقيمه.

إنها رحلة معقدة تتطلب رؤية ثاقبة، قلبًا شجاعًا، وعقلًا مرنًا. سواء كانت في الأسرة أو في المجتمع الأكبر، فهي ليست وعدًا بالفردوس، لكنها الحارس الذي يمنع النيران من التهامنا، والسد الذي يقف في وجه الفوضى. هي المؤسسة التي تُنظم العلاقات البشرية وتحمي المجتمع من الانزلاق إلى مهاوي الفتن والصراع. إنها ذلك الفن العميق الذي لا يَعِدُنا بالجنة، لكنه يضمن لنا نظامًا يحمي كرامتنا، ويُبقينا بعيدين عن جحيم التنازع والانقسام.

السياسي الحقيقي، وإن لم يمنحنا الجنة، يبعدنا عن الجحيم؛ يضع الأسس التي تضمن بقاء النظام، ويُدير المتناقضات بحكمة تمنعنا من السقوط في الفوضى. في كل قرار يُتخذ، في كل نظام يُبنى، تبقى السياسة هي السبيل الذي يُبقي جذور الإنسانية حيّة. إنها ليست مجرد مؤسسة، بل روح تسعى لإقامة التوازن بين القوة والرحمة، بين الحزم والمرونة، بين مصالح الأفراد وخير الجماعة. السياسة، في جوهرها، ليست نهاية الطريق، لكنها الأداة التي تُمهد لنا طريقًا آمنًا نحو غدٍ أفضل.