ماذا تبقى من «تمرد كامو» في ظل ثقافة الغرب الديموقراطي؟

بقلم: زكية لعروسي

 

في ندوةٍ أُقيمت بالأمس لمناقشة فلسفة ألبير كامو، وجدتني أُصغي إلى حديثٍ عن التمرد، كما تصوّره هذا الفيلسوف الذي جعل من تمرّد الإنسان صرخةً أولى للبحث عن المعنى وسط عبثية الوجود. كامو، الذي آمن بأن الثورة على الظلم هي الخطوة الأولى نحو إدراك الذات، قدم مفهوم التمرد كفعلٍ حتميّ يقاوم العدم ويمنح الحياة هدفًا، في عالمٍ بلا منطق. لكنني سرعان ما وجدت نفسي في مأزق. كنت على وشك أن أطرح سؤالي حول موقع هذا التمرد في وجه ما يجري من صراعات وأحداث دامية في الشرق العربي، لكنني شعرت بثقل الكلمات التي اخترتها حتى لا أثير النظر أو أغضب الحاضرين. وجبنا مني، وجدتني أعيد صياغة السؤال بحذر، لأتفادى أي ارتجاج في مشاعر الحاضرين في القاعة، متجنبة إيقاظ أشباح الذاكرة حول العالم العربي وما يعصف به في تلك البقعة من الأرض. هدأت من حماسي قليلاً، وطرحت سؤالاً حول غياب الثقافة العربية المكتوبة عن مدرجات الجامعات وقاعات الدراسة في فرنسا:

“جميلٌ أن يُحتفى بألبرت كامو كرمزٍ بارزٍ، معترفٍ به بعمق في العالم العربي والمغرب. لكن ألا ترون أنه من الأجدر أيضاً أن يُفسَح المجال لأعمال الفلسفة والأدب العربي، وأن تُدرّس بإمعانٍ في جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية الفرنسية؟

خيبةٌ أخرى، كنت أشعر بها إزاء المحاضر نفسه، الذي أغفل، برغم حديثه عن كُتب كامو العميقة في رفض الظلم، أن يتناول ما يمثله التمرد في سياق القضية الفلسطينية، وكأن التمرد، في أبهى معانيه، يتوقف عند حدود جغرافية، أو أنه لا يستحق الذكر إن تعلّق بشعب منسيّ من الصراع والمأساة.

يُقال إن المثقف هو “ضمير الأمة”، لكن ما الذي جرى لعقل المثقف المعاصر؟ هل هو الخوف أم التنازل أم النفاق؟ وهل من المقبول أن يُختزل التمرد إلى مفاهيم تسيَّر حسب المصالح والضرورات السياسية، بحيث يغدو ما كان حقًا واضحًا باطلًا مطلقًا إذا تعارض مع تيارات أصحاب النفوذ؟ حين يتحول التمرد إلى مجازفة أخلاقية تُخضع المثقف لصياغات “معتدلة” تساير الجمهور، نكون أمام ثقافة تائهة أضعفت جوهرها القيمي في مواجهة قضايا الحقيقة والعدالة.

يجد المثقف نفسه في مواجهة تناقضات وجودية عميقة بين دعوته للتمرد على الظلم ومطالبته بإبقاء “الاعتدال” أمام مسائل تُعدّ حساسة سياسياً. وهنا يتضح كيف أن تسييس الثقافة قد جعل من كل نقاش، مهما كان نبيلاً، ساحةً لأجندات سياسية تتسابق لامتلاك الرأي وتطويعه. فبدلًا من أن يكون المثقف متجردًا عن القيود، يواجه ضغوطًا تكبح خطابه. بات التمرد عنده مفهومًا يمكن إعادة تشكيله وفق ما تمليه “المواقف المقبولة”، ليصبح أداة تُكمم بها حرية الرأي، وكأنه بات مطلوبًا منه أن يختار عباراته بحذرٍ يُلغي جراءته، وأن يتجنب إبداء الرأي في قضايا قد تنعكس على مكانته الاجتماعية أو مسيرته المهنية.

المعضلة تكمن في أن التمرد، الذي نادى به كامو، قد فقد قدرته التحريضية حين أصبح مفهومًا محدودًا بالمصالح. لم يعد الحق في مواجهة الظلم موقفًا إنسانيًا يتحدّى القيود، بل بات يخضع لإعادة تأطير وصياغة بحيث يُقبَل فقط إن لم يتعارض مع المصالح السياسية السائدة. فقضية فلسطين ليست مجرد مسألة سياسية، بل هي تجسيد لمأساة إنسانية تتعلق بمعاناة شعبٍ بأسره، لكنه، مع ذلك، لا يزال محكومًا بما يتناسب مع “الإجماع المقبول”، ويطالب المثقف، ضمنيًا أو صراحةً، بتعديل خطابه تجاهها أو حتى الامتناع عن تناولها.

هنا يتجلى التناقض في أقصى حالاته، إذ يُصبح النضال في سبيل قضايا نبيلة، كقضية الشعب الفلسطيني، تهمةً محتملة، ويجد المثقف نفسه منبوذًا، يلتزم الصمت عن قضايا تمس جوهر رسالته كصوت للحق وممثل للضمير الإنساني. لاختبارات عسيرة حين يتعلق الأمر بقضايا ذات حساسية سياسية أو أيديولوجية، فلا تزال الديمقراطيات، على الرغم من نبل مبادئها في حريات التعبير، ترزح تحت تأثير الترهيب الفكري. وبذلك، يجد المثقف نفسه في مواجهة صراعٍ فكريٍ قاسٍ، حيث تتعاظم الضغوط للتراجع عن موقفه الصريح، ويتزايد شعوره بالخوف من التهميش، أو من الهجمات الفكرية التي قد تنال منه إذا ما عبر عن موقفٍ مستقل يخالف الرأي السائد. وهكذا، يُدجَّن التمرد – الذي يُفترض أن يكون رفضاً للظلم وصرخةً ضد الطغيان – في حيزٍ محدود من المصطلحات المؤطرة، ليبقى مجرد مفهوم نظري لا يُجسَّد في الواقع.

إذا كان المثقف يسعى بصدق إلى استعادة دوره النقدي وحريته في التعبير، فلا بد من استنهاض ثقافة الحوار، لتكون مسرحًا تتلاقى فيه الأفكار دون أن تكون مرهونة بقيود سياسية أو تحيزات أيديولوجية. إن تعزيز ثقافة التعددية الفكرية وحده كفيل بفتح مساحات للحوار الحر، حيث يُطرح الرأي بشجاعة، وحيث يتمكن المثقف من الإشارة إلى القضايا العادلة دون خوف أو تردد.

وفي زمنٍ يبدو فيه التراجع عن هذا الدور احتمالًا مغريًا بسبب الضغوط، يجب على المثقف المعاصر أن يخلق، ولو في ذاته، مساحة حرّة، يقدر فيها على التفكير والتعبير بصوت صادق وواعٍ، حتى لو اقتضى الأمر التلميح لا التصريح، والإيحاء بدل المجاهرة. فالرسالة تبقى أمانة، وحين يُغضّ الطرف عن قضايا كفلسطين، تتبدد الثقة التي وضعها المجتمع في مثقفيه، وتضمحل القيم الأخلاقية التي كانت تلهم مسيرتهم ورسالتهم.

إن طريق المثقف اليوم محفوف بمسؤولية أخلاقية ثقيلة؛ فهو ليس مجرد حامل للأفكار، بل هو صوت يطالب بالعدالة ويقاوم الظلم، ومعوَّل عليه أن يثبت أن التمرد هو موقفٌ أخلاقي ثابت، لا يتغير مهما كانت المصالح السياسية الضاغطة، أو الأجواء الفكرية المحيطة.