بقلم: المصطفى غزلاني
كتمهيد واسع لما أريده من هذا العنوان لا بد من الاستئناس بما جاءت به كتب التاريخ وخاصة القديمة منها. من هنا أعود بالقارئ إلى مؤلف يعتبر المرجع الأعلى وهو “فن الحرب” للجنرال الصيني صون تزو sun tzu، الذي عاش خلال القرن الخامس قبل الميلاد. هكذا، نجد في حاضرنا أن كتاب “فن الحرب” حاضر في مجالات كثيرة حيث يتم تكييف مبادئه حسب خصوصية المجال؛ في الرياضة، في التواصل، التجارة…. وفن العيش عموما أي في كل مجال يقتضي استراتيجية للفوز والنجاح أو الهيمنة.
يقول الجنرال تسو في جملة مبادئ، أن القائد المنتصر هو من:
– يعرف متى يحارب ومتى لا يحارب.
– يعرف كيف يتعامل مع مختلف أشكال القوة.
– تُحرك عناصر جيشه روح معنوية واحدة في كل المستويات.
– يتجهز جيدا ثم ينتظر ليأخذ عدوه على حين غرة.
– له كافة الصلاحيات في حيثيات عمله.
لنلاحظ أنه إذا استبدلنا عبارة العدو الحربية بعبارات مثل الخصم الرياضية أو المنافس التجارية أو المجادل القضائية والمحاور الدبلوماسية…، فلابد أن التوصيات هذه تستقيم ويكون لها نفس المردود، طبعا مع الحرص على الحذق في اتخاذ القرار الصائب في الوقت اللائق.
بعد هذه الجولة أصل إلى عنوان هذه الورقة ” مبدأ طارق من الحرب إلى الفن”، وفجأة ستستفهمون: من طارق هذا؟
أقصد طارق بن زياد وقراره حرق المراكب. في هذا السياق لا يهمني الحدث من حيث تاريخيته، بل ما يهمني هو هذا المبدأ الحربي. تنقل لنا كتب التاريخ أن القائد طارق أمر بحرق قوارب العبور وهي لا مناص قوارب العودة وكأنه أراد بملموسية أمره هذا: لا عودة لكم. لكن ألا يحمل حال اللاعودة في الحرب معنى الموت ولا شيئا آخر!؟ يبدو أن عمق مبدأ طارق، سواء في الخطبة أو في الواقع، وكأنه استعار من الموت حتمية اللاعودة حين الهزيمة لينطلق منها مطمح الفوز كي يتحقق خيار العودة. وبهذا يكون قد سد كافة المنافد المحتملة إلا منفد الفوز لا غير. لن أستفيض في مجريات تلك الواقعة فكلنا يعلم متواليات ذلك المبدأ.
لكن، كيف نستطيع تسْفير مبدأ طارق من الحرب إلى الفن والفن التشكيلي تحديدا؟
ينتهي الفنان من مرحلة التكوين وفي هذا لا يهم أكان أكاديميا أم عصاميا، ثم يعبر مراحل التجريب واختبار عالم الفن بمعارض جماعية مختلطة من حيث تقنياتها وأساليبها وكذا مواضيعها، ثم أخرى موحدة التيمة أو التقنية … يتابع الفنان تقليب تاريخ الفن؛ مبادئه، مدارسه، تياراته، أساليبه… ثم يواجه نفسه بأسئلة المجتر والممكن والمتفرد.. كيف له أن يكون متفردا يسائل لواعجه ومكنونه الابداعي.. يتابع الأفكار في إمكاناتها القصوى إلى أن يطمئن على واحدة على صيغة على تركيبة لونية على تقنية.. أكيد أنها غير مسبوقة يقول في نفسه.. أكيد أنها ستدهش المشاهد.. يفرح، يسعد بالتصور.. ثم ينخرط في الإنجاز، اللوحة بعد الأخرى بعد الأخرى… في هذه المرحلة يقترب شيئا فشيئا من لحظة فاصلة تكون في حياة الفنان وهي لحظة الوقوف فردا مفردا، واحدا وحيدا أمام العالم، يقدم معرضه بيديه لحضرة المشاهد الشاهد.. فجأة، وقبيل افتتاح العرض يعتريه شعور مهول وكمن يتجشأ مريئه، ينكفئ يخاطب نفسه: هل سيقدر العالم إبداعي هذا؟
هي اللحظة العصامية بامتياز. لا مجال للتراجع، عليه ألاّ يخمن في العودة، مبدأ طارق لا يقبل العودة. لكن مهلا، شيء ما لم تقله كتب التاريخ؛ هو كم مرة سقط طارق وكم مرة أنقده أحد جنوده وكم طعنة أصابته، ثم كم مرة أخطأ التقدير.. وكم مرة عدّل من تكتيكات المعركة ثم، ثم… لكن، طارق هو فاتح الأندلس.