بقلم: عبد العزيز كوكاس
“كل موت في الطبيعة ميلاد، ففي الموت، تحديدا، تصل الحياة ذروتها”
فيشتر
اسمهان عمور وجه إعلامي بارز، صوت إذاعي ظل يأتينا عبر الأثير بلكنة خاصة ودفء متميز، أعطاها هوية متفردة ضمن المذيعين الكبار بعد جيل الرواد، وهي التي قضت 37 سنة أمام ميكروفون الإذاعة الوطنية، مرورا بمختلف التجارب الإعلامية العربية والدولية منmbc إلى إذاعة bbc فالتلفزيون الألماني dw… ومن خلال برامج ثقافية عديدة: “حقيبة الأسبوع”، “زهور”، “بانوراما”، “حبر وقلم” والبرنامج الموسمي “لآلئ من الشرق وأدباء من أرض الكنانة”، إضافة إلى برنامج مشترك مع رفيق دربها في العشق والمهنة، الحسين العمراني، “أزواج متألقون”… يتعلق الأمر بسفر طويل في العالم السمعي بَصمتْ من خلاله صاحبة هذا الكتاب على تجربة متميزة بنبرة أنيقة جعلتها تحتل مكانا مرموقا في قلب المستمعين وبين المثقفين ومختلف المبدعين داخل المغرب وفي العالم العربي…
تُطل علينا اسمهان عمور هنا عبر الكتابة لا الأثير، الأثر هنا ملموس محسوس، أسود الحبر على أبيض الورق، عبر كتاب اختارت له عنوان “نكاية في الألم”، له طابع جنس اليوميات حيث تتداخل التأملات والانطباعات مع تجارب من حياة الكاتبة من سيرتها الذاتية ومن احتكاكها بمحيطها في تفاصيل المعيش اليومي.. تتقاطع في الكتاب وقائع وأحداث كانت تعبر حياة الكاتبة، ونتفا من مقاطع تجربة ذاتية مبثوثة هنا وهناك، مليئة بالنوستالجيا، مع استعادة فضاءات وأزمنة، تجارب ومحن، هزائم وانكسارات عبَرت جسد الكاتبة وقلبها ووشمت الجسد الاجتماعي بشكل عام.. لكنها أيضا كتابة تغيظ الألم وتتشفّى فيه، تقلقه وتضايقه لتثبت انتصارها على مخلفاته من جراح وانتكاسات لا تحصى..
هو نص في مديح الرحيل وذمه إذن، نص في الموت وأشباهه.. “نكاية في الألم” نص يتدثر بحزن شفيف ناتج عن الغيابات القاسية ومختلف أشكال الرحيل.. الرحيل هنا بمعنييه: الارتحال أي الذهاب والسفر، الانتقال في المكان، وهذا كان ديدن اسمهان عمور داخل وخارج الوطن بحكم مهنتها، وقبل ذلك بحكم الوظيفة العسكرية للأب التي كانت تفرض التنقل بين مدن عديدة منذ طفولتها، والرحيل بمعنى الغياب والموت تعلق الأمر برحيل أشخاص، أفراد عائلة وأقارب وأصدقاء، من موت الوالد بسبب حادثة سير إلى وفاة فنانين أو زملاء في المهنة شملهم الفقد ممن حملوا ذاكرتهم “نحو الحقيقة الواحدة في الكون: الموت” كما تقول
اسمهان عمور، أو تعلق الأمر بأمكنة أصابها التلف، مثل تلك الدور التي عبرتها اسمهان عمور من أهرمومو وقرية الزيتونة، صفرو وأحولي التي وجدتها حين زارتها، يبابا بعد ازدهار، أضحت “أقرب إلى الموت منها إلى الحياة”… أو تعلق الرحيل بفقد أزمنة: العمر الذهبي للعمل، ألفة وشكل عيش افتُقدَا مع “الزمن الجميل”، ريعان الشباب، “ليالي الأنس” التي حملت منها الكاتبة وشمها الدال على كينونتها: اسمهان.. أو كان فقد ذاكرة فردية أو جماعية تتعرض للتلاشي في زمن غير الزمن… تقول: “هكذا وجدتني العمر كله واهبة وسخية ومانحة حتى كادت نفسي أن تشتكي ظلمي لها.. أنا التي لم أرمق انفلات لحظات العمر”.
ما يعمق الألم في كتاب اسمهان عمور، هو زمن الكتابة ذاته الذي هو زمن موت كوني، مع سطوة وباء الإمبراطور كوفيد التاسع عشر، نحس صوت النحيب قادما من العبارات والجمل مثل هدير شلال، قلب منفطر أوجعه الفقد.. علاقة توتر بجسد الكاتبة، معاناة مع مرض ضعف القلب منذ زمن بعيد في بداية العمر والرحلة القاسية للعلاج والشلل الرعاشي على كبر، وما يخلفه كل ذلك من آلام وجودية.. اكتشفت اسمهان عمور الكتابة كدواء لداء الوجود في زمن كورونا، نكاية في الألم، أي تشفيا في هذا الموت الذي يخبط خبط عشواء، ويخطف كل يوم مقربين وأصدقاء لنا معهم ذكريات ووشائج عميقة، وأحسسنا جميعا أنه قريب منا، يعبث بنا، نشمّه، نسمع هسيسه مع كل مأتم في لحظة الوباء القاتل.. ألم تنتصر الفنون والآداب على الموت؟!
رغم أن الموت هو الحقيقة الوجودية المسلم بها مثل الحب، أو كما يقول سارتر: “إنني أقرر أن الموت كان المعنى السري لحياتي وإنني عشت لأموت، إنني أموت لأشهد بأن من المستحيل أن يعيش الإنسان”، إلى أن الأسئلة التي يخلفها فينا، أقوى بكثير من حزن الرحيل، الذي يصبح هنا موضوعا للتأمل تشفيا ونكاية بالآلام التي يخلفها، حتى لتغدو الكتابة مثل عشبة خلود نبحث عنها لترك الأثر، لأن “موت الآخر: موت مزدوج، لأن الآخر هو الموت الذي يجثو علي، كأنه هاجس الموت” بتعبير دريدا.. كتاب “نكاية بالألم” هو انتصار للحياة، لعب قاسي مع الموت، لعب مخاتل فيه الكثير من الرجاء، كمن يتوسل الموت ليمهله قليلا حتى يحبّر هذه السطور، ثم تشف في الموت ونكاية بألمه الفردي والجماعي، حيث أعتبر صدور هذا الكتاب وحده أحد انتصارات اسمهان على الرحيل.
تُنصت الكاتبة ليس فقط لألم وجعها، بل تنفتح على هذا الفقد المتوالي لرموز وأصدقاء… للفقد الجماعي الذي فجعنا في إعلاميين ومثقفين ونشطاء في الحقل الاجتماعي، وحتى حين تتناول وقائع أو ترصد أحداثا في الحياة العادية، تتصيّد المنفلت منها بعين الصحافية، تحس بوجود وجع الفقد في كل التحولات التي أصابت أنماط التفكير وبنيات السلوك وتحول العلاقات الإنسانية… حيث تقيم مقارنات بين الحاضر والماضي كما في حادث حارس منتزه الحسن الثاني الذي التصقت أذنه بالمذياع، أو النساء اللواتي تعرضن للعنف الجسدي، أو خلال ما حدث في مرحلة الحجر الصحي، وتستعيد سحر الأثير الذي كنا نعرف صوت مذيعيه من النبرة الأولى، تلتقط ظواهر اجتماعية من عنف جنسي، وتغيرات السلوك، وفقدان الحميمية، تستحضر الرموز الدافئة التي أثثت فضاء الإذاعة بالكثير من الوجع لتحولات الزمان، وما فقدناه من لذة اللّمة الحميمية مع ظهور وسائط التواصل الحديثة.. وتصرخ فيما يشبه الحشرجة: “كم من السواد نحتاج لنلف هذا الحزن؟
وبرغم النغمة الحزينة التي تشوب معظم مفاصل كتاب “نكاية في الألم”، ينفتح النص على كُوات نور عديدة، بداية العمل في الإذاعة، “كانت بداية رمّمت جرح انكساري وقهري في ردهات مستشفى ابن سينا. كنت أفرح بالرسائل المختومة من مدن عديدة في المغرب والخارج، أقرأ ما صاغه المرسل فتكون الجرعة كافية للزهو وانفلات البسمات”.
استعادة أمكنة ووجوه قادمة من الزمن البعيد من الطفولة أو أيام العمل إلى جانب الرواد الكبار، بموازاة الرحلة الأدبية التي كانت تخوض غمارها في قصص وروايات كانت تفتح عينها على الوجود وهي بعد غرّة… تنتصر اسمهان عمور للحياة برغم كل الأعطاب، تتوقف عن علاج ضعف قلبها بعناد وتُوصيه ألا يتوقف نبضه ويقف إلى جانبها، تعاهدا معا وأكملا المسار.. تنتصر للحياة نكاية في وجه الألم الفردي والجماعي، أتصور مرارة البنت التي رحل والدها دون أن تكون لها معه صورة، وتعجبني الاستعارة الجميلة للكاتبة وهي تقول نكاية في الموت: “يا الله لو أن للعمر عودة لالتصقت بزي أبي العسكري وأخذنا صورا حتى فوق اللغم”، صورة من قلب الموت، هي أكبر انتصار للحياة، لبقاء الأثر، للخلود، ولعل كتاب “نكاية الألم” هو نزع الأثر من براثن الموت، من فوق ألغام مرئية وغير مرئية.. “هزمتك الفنون يا موت” كما تغنى محمود درويش في جداريته الشهيرة.
يقول تودوروف الكتاب الذي لا يتضمن حكاية يقتل، وكتاب “نكاية بالألم” يتضمن نفسا حكائيا، سردا عاطفيا يتفجر ألما، يحتفي بالوصف البهي وبأسلوب شيق يسرد وقائع وأحداث بلغة أنيقة، تقول: “عند كل فتح جديد للباب الخشبي، بمزالج لا يقدر على لولبته إلا الكبار، نستقبل كل صباح بريقا ألماسيا للثلج الذي زيّن جبل بويبلان. كنا نحسه قريبا رغم ما يفصل البيت الطيني والجبل من مراع وسهول، وعلى ضفاف واد زلول تتشابك في مرمى البصر أشجار الأرز في تحد صارخ لقساوة المناخ. ونادرا ما كنا نلمح الضوء الباهت المنبعث من السيارات أو الحافلات المتهالكة خاصة مع فجر السوق الأسبوعي الذي يصادف يوم الاثنين في أهرمومو” .