تهريب الصورة أو التضليل الإعلامي الكبير

بقلم: سعيد بوعيطة

تناولنا في المادة السابقة (هل أتاك حديث الهروب الكبير) محاولة جمع غفير من الشباب العبور من مدينة الفنيدق إلى مدينة سبتة، وما رافق ذلك من معطيات وملابسات. لكن بعد محاولة العبور التي أجهضها الأمن المغربي، برزت مجموعة من الصور التي وثقت لهذا الهروب الكبير. تفاعل معها المتابع المحلي والدولي. لكن هذه الصور، أثارت في الوقت نفسه العديد من الأسئلة سواء بخصوص حقيقة حقيقتها من زيفها، و حول من له المصلحة في نشرها. نظرا لما للصورة اليوم، من قوة وتأثير أكثر من فعل الكتابة. خاصة على مستوى تلقي الصورة وإدراك محتواها الذي يختلف من شخص لآخر. فعلى الرغم من تباين الإمكانات والقدرات التي يستقبل من خلالها كل واحد هذه الصورة أو تلك، فإن السواء الإعظم يستقبلها من خلال معرفته الحدسية. فهل الأمر كذلك بالنسبة لتلقي صور الهروب الكبير.

تلقي صور الهروب الكبير

يعد التفكير البصري محاولة لفهم العالم من خلال لغة الشكل والمضمون كما قال أرنهايم في كتابه التفكير البصري (1969). حيث ميز أرنهايم في هذا الكتاب بين نوعين من المعرفة. تتجلى الأولى في المعرفة الحدسية، فيما ترتبط الثانية بالمعرفة الذهنية (العقلية). تتجلى المعرفة الحدسية في رأي أرنهايم في المجال الإدراكي الذي تتفاعل فيه القوى بشكل يتسم بالحرية، ومن أمثلة ذلك ما يحدث مثلا عندما يحاول شخص ما إدراك لوحة تشكيلية. إذ يحيط بصريا بالمنطقة التي يشتمل عليها إطار اللوحة، ويدرك المكونات المختلفة لهذه اللوحة من أشكال وألوان وعلاقات مختلفة. لكن مكونات الصورة تمارس تأثيراتها الإدراكية بعضها في بعض بطريقة تجعل المتلقي يستقبل الشكل الكلي باعتباره نتيجة للتفاعل بين مكونات اللوحة المختلفة. حيث يحدث هذا بطريقة كلية داخل عقل المتلقي/المشاهد. أما في الحالة الثانية، فيعتمد المتلقي على المعرفة العقلية. فبدل امتصاص الصورة الكلية باعتبارها كلا متكاملا (كما في حالة الإدراك الحدسية)، يحدد المكونات وكذا العلاقات المختلفة التي تتكون منها الصورة (اللون، الشكل، وكل جملة لسانية مصاحبة للصورة…الخ). ليقوم بفحص العلاقات الممكنة بين هذه العناصر، ثم يحاول القيام بالدمج أو التركيب بين هذه العناصر(عملية شبيهة بالتفكيك وإعادة التركيب كما حددها جاك دريدا).

ينطبق هذا التصور العام الذي حدده أرنهايم على مجموعة الصور المتداولة على منصات التواصل الإجتماعي التي ربطها أصحابها بمحاولة الهروب الكبير الذي عرفته مدينة الفنيدق المغربية في منتصف الشهر الجاري. لهذا نطرح السؤال: هل حاول المتلقي/المواطن تفكيك تلك الصور (على الأقل) بعد تلقيها من خلال معرفة عقيلة (ولو بشكل نسبي)، أم تلقاها من خلال معرفة حدسية فيها الكثير من العفوية التي تصل أحيانا إلى حد السذاجة؟ هل حاول تفكيك عناصر تلك الصور وإعادة تركيبها للكشف عن زيفها من حقيقتها؟ لا نبحث هنا عن أجوبة، بقدر ما نؤكد على أن تلك الصور لها مقصدية معينة، ولا ترتبط بنية العمل الصحافي الحقيقي الذي يقوم على القاعدة المعروفة الخبر(بما فيه الصور) مقدس والتعليق حر، لكن نشر تلك الصور كان لحاجة في نفس يعقوب. ولقضاء هذه الحاجة، تم تزوير وتهريب هذه الصور من مكانها الأصلي، وربطها بوقائع ليلة الهروب الكبير، من أجل التضليل المحلي والعالمي. وهذه هي الحاجة التي يبحث عنها جارنا يعقوب.

تهريب الصور والتضليل الإعلامي الكبير

يؤكد الباحث عبد الله الغذامي على أن ثقافة الصورة تتمظهر باعتبارها ثقافة بصرية. تأخذ نموذجًا في الإرسال والاستقبال والفهم والتأويل. مما يجعلها تقتحم إحساس الإنسان وتضغط عليه بصورة فعلية. مما يجعلها تحقق إبادة المعنى (الفصل بين الدال والمدلول بالمعنى السوسيري). بمعنى بين حقيقة الصورة ومرجعيتها. لأن كل فصل بين الصورة وبين المرجع (الواقعي) يؤدي إلى نوع من الزيف. يقود بدوره إلى تضليل المتلقي. حيث تظهر هذه الصورة المزيفة وكأنها هي التي خلقت الحدث. ويصبح الإنسان (متلقي الصورة المزيفة) في حد ذاته يعيش تفككًا داخليًا من قوة التعدد وتمشهد الحياة. مما قد يحجب عنه الكثير من الحقائق إزاء تصلّب العقل بعد تركيز دقيق على بعدٍ واحد بحسب المعطى السيكولوجي. بمعنى تترسب الأحداث التي تؤشر عليها الصورة من خلال اللاوعي، مدفوعة من التأويل النابع بحسب الرغبة والميولات الخاصة. مما قد ينشأ زيفا عقليا، يعيش وهمًا أبديًا (وهم الصور كما في هذه الحالة).

لهذا، كان صاحب الصور المزيفة التي تؤشر على ليلة الهروب الكبير، على علم تام بأهمية هذا البعد الإدراكي والنفسي و كذا الـتأثيري لمقصدية الصورة. مما جعله يوكل لإعلامه الرسمي أولا، وغير الرسمي ثانيا، نشر هذه الصور المغلفة الجوانب بتحولات مفرطة. الأمر الذي مسّ الإدراك وحجب كشف التزييف الظاهر للحقائق لدى المواطن المغربي خاصة والعالم عامة (ممن شاهد الصور)، لأن التشويه (الصور) الذي مارسه هذا الإعلام، قد هز الذات المغربية والعالمية من خلال الإفراط الإعلامي في تزييف الحقائق. خاصة وأن بعض تلك الصور قديم، وبعضها الآخر تم تهريبه من أحداث غزة وإسقاطه على أحداث ليلة الهروب الكبير. ليتم استبدال واقع بآخر، وبحيل مقنعة. بهذا الفعل، سعى إعلام الجيران إلى توحيد الرؤية والوقائع في بوتقة واحدة. همه الأول والأخير، حجب الواقع الحقيقي، و بناء واقع مزيف. يتجاوز الواقع والوقائع (وهو ما ينافي رسالة الإعلام في أرجاء العالم). لكن في كل محاولة للتزييف، ينكشف المستور، وينقلب السحر على الساحر. لتنكشف تلك العملية الاصطناعية لواقع مزيف تحرِّكه أطراف متمكنة بقبضة من حديد في مجال الإعلام، وفي غيره من مختلف مجالات الحياة العامة.

حين ينقلب السحر على الساحر

أدت الرقمنة دورًا مهمًا في قلب المفاهيم، حيث خلقت حربًا إعلامية، تجاوزت الحروب الميدانية. نشأ على إثرها نوع من التضليل للرأي العام. كما أصبح الغموض مهيمنًا على الواقع المتصارع الذي أدى إلى بروز التناقضات والاختلالات. لهذا، فالمتأمل في تلك الصورة المتداولة، يرى أن عمق الصور يسعى إلى قلب الحقائق الواقعية. وأن هذا الإعلام يتجه الى حجب المعلومات الحقيقة. مما يجعل المعالجة الإعلامية لهذه الصور غير حيادية. إذ تقوم بطبع أثرها على تكوينات الأفراد والجماعات. كما يتم فصل الرمز عن مرموزه. مما يكشف عن اختفاء الواقع الحقيقي بعدما يكون هذا الرمز قد اكتفى ذاتيًا.

فهيمنة الصورة على العقل تبدأ بمؤشر إعلان الخبر. إلا أنها لا تصبح حاملة له كحدث، بل صانعة لفعل جديد. مما جعل الباحث بودريار ينتقد هذه الزاوية، ويكشف عن زيف أمانة الميــديا باعتبارها وسيطا. لكونها تتكون من بنية شديدة القدرة على الزيف إلى الحد الذي يتبدد المعنى فيها. نتيجة تراكم الوقائع وتعدد مضامينها، فيصبح ميدان الإعلام، على حد تعبيره، بؤرة ابتلاع منحى القصد وخلق معنى بديل مركب. وهذا واقع أعلام جارنا العزيز.

فماذا يمكن أن نسمي هذا الإعلام القائم على قلب الحقائق وتزيف الوقائع والسعي إلى التضليل؟ أنا شخصيا لن أسميه إعلاما، أما أنتم فلكم واسع النظر. لكننا نتفق جميعا (ولو ضمنيا) على أن السحر قد ينقلب على الساحر، ”ولا يفلح الساحر حيث أتى (سورة طه/ الآية: 69).