لسان للطير وآخر لبني آدم
خلافا للطيور، لا يستخدم الإنسان لسانه/ لغتة لمجرد الإشارة إلى حالات شعورية أو إدعاأت أرضية (كما يشير ماكيل كورباليس في كتابه (في نشأة اللغة)، ترجمة: محمود ماجد عمر، سلسلة عالم المعرفة/ الكويت، مارس 2006، ص: 15)، بل لتشكيل العقول. لأن اللغة جهاز مهندس بإتقان لوصف الأماكن، والناس، والأشياء، والأحداث، وكذا الأفكار والمشاعر. أما اليوم، فيستخدم الإنسان اللسان لإعطاء الاتجاهات، وحكايات الماضي، وتوقع المستقبل، وللإخبار بالقصص الخيالية، وللمداهنة والخداع، وللإنخرط في النميمة، سواء الواقعية منها أو الإفتراضية (الإلكترونية)، وأكل لحوم إخوته في زمن أصبحت فيه أثمنة اللحوم الحمراء لا تطاق (على الأقل بالنسبة لنا نحن الفقراء)، كما أنه طريقة نافعة في نقل الأخبار عن الآخرين.
أما في الميدان التربوي والتعليم، فنستخدم اللسان/ اللغة لنقل الخبرة للآخرين، ونتقاسم معهم خبراتنا لنجعل التعلم أكثر كفاءة ومردودية، وأقل خطرا ما أمكن. لأن الأفضل أن نطلب من أطفالنا ألا يلعبوا وسط حركة المرور، بدلا من أن ندعهم يكتشفون بأنفسهم ما الذي سيحدث لهم لو فعلوا ذلك. وإذا كان الطير يسعى لتطويع وتطوير لسانه، حتى تفوق أحيانا على البشر في قدرته على تطويع صوته، شأن الطائر القيثاري الأسترالي القادر على تقليد تام لصوت فتح علبة الجعة وهو الصوت الأكثر شيوعا في تجمعات الناس في هذا البلد، فإن الإنسان اليوم لا يستل لسانه إلا ليحارب به، من دون أن يفكر في تطويره ليصبح لسانا/ لغة وطنية.
في مديح اللغة الوطنية
ليست اللغة القومية لأي شعب، وسيلة تواصل فقط، إنها رافعة وجودية ذات حمولات كثيرة ومتعددة وغائرة في أعماق الفرد والأمة. أما من يرى فيها مجرد أداة تواصل بين الفرد ومحيطه، فهذا من نافلة الاستخدام ومن أبسط وأول وظائف اللغة في أي جماعة إنسانية. إنها أداة تعبير وتفكير ومشاعر، وهي وسيلة عاطفية بالدرجة الأولى لفهم كل ما يربط الفرد بتاريخه ودينه وعاداته وتقاليده وثقافته. فنحن نصلي بلغتنا وندعو الله بها، كما نعبر عن مشاعرنا وعواطفنا وتعاطفنا وغضبنا ورضانا وعن ذواتنا بهذه اللغة. لهذا، فاللغة أداة تفكير قبل أن تكون أداة حديث، فبها نفكر وبها نقدم أنفسنا للآخر في هذا الوجود الجغرافي الشاسع ،الذي يصنف البشر بحسب العرقيات والأوطان، واللغات. كل هذا لا يعني موقفاً مضاداً من أية لغة كما قد يفهم البعض، لكنه يعني موقفاً مسانداً ومفصلاً للغتنا الأم التي هي اللغة العربية، و بعدها نتعلم وتتعلم الأجيال من بعدنا، بألف لغة ولغة. وحتى حين نصيغ عباراتنا المؤثرة وأمثلتنا ومنطقنا وفلسفتنا، فإننا نعود لجذورنا ننهل منها باعتبارها مرجعيات ومنابع تربينا عليها وتعلمناها، ومن الممكن إعادة صياغتها أو ترجمتها بلغة أجنبية لتصل للآخر. لأن اللغة واحدة من مكونات الهوية والوجود. فأنا عربي لأنني أعيش في جغرافيا محددة وأتحدث بلغة عربية، وأدين بديانة معينة، ولدي تاريخ وثقافة وتفاصيل بلا حدود تعبر عنها اللغة وتعرفها وتمنحها أسماء وأصواتاً وموسيقى. لهذا، فمن ينسَ أو يُنَسَّ في لغته، فإنه يفقد هويته وانتماءه ويصبح نسياً منسياً. وهذا ما كانت تحاوله كل الدول الاستعمارية حين كانت تفرض على شعوب المستعمرات لغتها، في محاولة لاجتثاثهم من جذورهم، لينسوا تاريخهم وثقافتهم وحقهم في بلادهم.
ولأن اللغة هي التي تجعل مجتمعا ما يتصرف بالطريقة التي يتصرف ويفكر فيها. و لا يستطيع رؤية العالم إلا من خلالها، فإن اللغة تختار الوطن والمواطن على السواء، بعد ان يسهم في تنميتها وإشباعها بالمفاهيم العلمية والفكرية والدينية والاقتصادية والثقافية، وبعد أن يكون أغناها بمختلف المفردات والتعابير والأساليب، وبعد أن يكون قد منحها أحاسيسه ومشاعره وتمثله للفنون، ومسايرته للحياة المتحركة داخل الفكر الخاص والفكر الديني والفكر العلمي والفكر الإنساني. لكن أين سييمم الإنسان وجوهه في حالة التعدد اللغوي؟
التعدد اللغوي والوطن واحد
التعدد اللغوي لا يختص به بلد دون آخر. ففي الولايات المتحدة مثلا، تصارع اللغة الاسبانية اللغة الانجليزية. كما تصارع اللغة الفرنسية اللغة الانجليزية في كندا، وتصارع اللغة الكاطلانية اللغة الاسبانية في اسبانيا نفسها، وبعض اللغات المحلية اللغة الفرنسية في فرنسا. أما سويسرا فهي مثال للغات وطنية ثلاث لا تتصارع. لأنها لغات قومية. ولكنها تتصارع لأن سويسيرا نفسها لا وجود لها كوطن موحد متكامل عرقيا ووطنيا وقوميا، بقدر ما هي فسيفساء لقوميات مختلفة نابعة من بلدان أخرى (ألمانيا وإيطاليا، وفرنسا)، وتتبنى كل جالية لغتها الخاصة بها. ولهذا كانت الدولة مؤسسة توفيقية، وليست مؤسسة وطنية، والأمر شبيه بذلك في بلجيكا. حيث جعل الانتماء العرقي الصارم الدولة نفسها ضائعة بين العنصرين الرئسيين، وجعل اللغتين ميدان صراع أكثر منهما ميدان لقاء وتوفيق. وهو صراع لا يتجلى في الميدان الثقافي فحسب، ولكنه يتجلى أيضا في الميدان السياسي. ولولا الملكية التي أصبحت عامل مصالحة أكثر منها عامل توحيد، لتمزقت ربما وحدة بلجيكا.
إن الإلتجاء إلى اللغة الأقوى (المقصود بالأقوى هنا القوة الثقافية/الوطنية) هو الحل لهذا التعدد في الوطن الواحد. لأن العرقية فكرة متخلفة، وربما كان آخر انبعاث لها مع النازية الألمانية. ولكنها انتهت مع الفكر المثقف في جميع أنحاء العالم. وتبقى بعد ذلك الوحدة هي التي تتحكم في تكوين الشعوب وصمودها، والدين واللغة في مقدمة ظروف الوحدة.
أما في المغرب فلغتنا العربية يمكن أن نمارس من خلالها وجودنا الثقافي والحضاري عموما، أما بلغاتنا الوطنية الأخرى (الأمازيغية بشتى فروعها، الحسانية)، فيمكن أن نمارس من خلالها جانبا أساسيا من وجودنا الفني والفكري التخصصي باعتباره جزأ أساسيا من البناء الحضاري.