صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “قارّة المستقبل و ليست حديقة حيوانات جيوستراتيجية” يتناول من خلاله التحديات التي تواجه إفريقيا التي تحولت إلى “ساحة تنافس دولي مستعر” و عجز الإتحاد الإفريقي عن “بلورة موقف متقدّم من أجل تحقيق الإستقرار و التنمية” . و نظرا لأهمية المقال في فهم معضلات القارة السمراء، نعيد نشره بالكامل.
لا توجد أجندة جيوستراتيجية في عالم القوى الدولية، ليس للقارّة الأفريقية فيها مكانة الصدارة، أميركية أو أوروبية أو صينية أو روسية أو تركية أو عربية، ما يضع القارّة السمراء في مهب حسابات جيوسياسية متعدّدة الأطراف، وساحة تنافس دولي مستعر، غير أن هذا “الإغراء الجيوسياسي” يبدو كأنه لا يحفّز الأفارقة على وعي ذاتي، ويدفعهم إلى ترصيده من باب الموقف القارّي الموحد، بل نجد أن القارّة، في الوقت نفسه، عرضة لأشباحها الخاصة وشياطينها التي تمنعها من أن تصير سيدة نفسها. ولعل القمّة التي انعقدت في أديس أبابا الأسبوع الجاري سلّطت الضوء الكاشف على اللوحة بما يجعل المشهد قاتما. كانت أمامها نقط ملتهبة عديدة، تقف حاجزا بينها وبين بلورة موقف متقدّم من أجل تحقيق التنمية، التي تملك عديداً من مقوماتها الطبيعية والبشرية.
أولا: انعقدت القمة في غياب ستّ دول، الغابون والنيجر ومالي غينيا والسودان وبوركينا فاسو، ومرد ذلك إلى التراجع الديمقراطي فيها، بسبب التغيير اللادستوري، (أو الانقلاب) فيها لحسم شكل السلطة ومركز القرار. وهو موضوع يُرخي بكل ثقله على واقع القارّة، بل يجعل التعامل معه امتحانا جدّيا لقوة الاتحاد الأفريقي، وقدرته المؤسّساتية على حل المعضلات الأفريقية الداخلية، ومن المشكوك فيه أن تخرج القمة بما يمكنه أن يجد الحلّ في قضية الدول الست، سيما بعد أن حصل تقارب سياسي ـ عسكري بين أنظمة عديدة منها للردّ على الموقف الأفريقي. علاوة على ذلك، يعقّد خروج المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (سيداو) التي تعدّ إحدى أنجح المجموعات الاقتصادية في القارّة من الدول المعنية بتغيير الحكم دليلا آخر على حيرة أصحاب القرار الأفريقي. ولعل ما يقع في هذه المنطقة يجعل منها مختبرا حيّا لتشابك الملفّات في القارّة، بحيث إنها تعاني، في قلب المعادلة، من مشكلات الإرهاب، الجهادي منه وغير الجهادي، وكذا وجود حركات انفصالية مسلحة ووجود حركات مسلحة بدون وجود الدولة، ما يجعلها شبكات عنف عابرة للقارّات، وأحيانا تعمل على شاكلة شركات متعدّدة الجنسيات.
ثانيا: توجد على مائدة المفاوضات تهديدات عديدة قد تنتهي بالحرب بين الدول الأفريقية فيها: ولعلّ من مؤشرات القمّة ذاتها تزامن اليوم الأول فيها مع حوادث دالة على هذا الخطر، ومن ذلك تصاعد التوترات بين إثيوبيا والصومال الذي لا يزال عرضة للتهديد الجهادي، كدولتي القرن الأفريقي، بسبب اتهام الصومال الأمن الإثيوبي بمحاولة منع رئيسها من بلوغ المقرّ حيث تعقد القمّة. وفي اليوم نفسه، ارتفعت حدّة التوتر بين الكونغو الديمقراطية ورواندا بعد اتهام الكونغو جارتها باستهداف المطار في غوما بمسيّرات حربية، وهو احتداد على هامش صراع مرير على إقليم شمال كيفو الذي اندلع منذ نهاية 2020 بين حركة إم 32 (حركة 32 مارس) مدعومة بوحدات من الجيش الرواندي من جهة، والجيش الكونغولي مدعوما بجماعات مسلحة وشركتين عسكريتين أجنبيتين من جهة ثانية. وينخرط في القتال آلاف الجنود وعناصر في الفصائل المسلحة
ثالثا: تنامي الحروب الأهلية، سيما في السودان، وتراجع السلم في السودان الجنوبي، ووجود حركات انفصالية في عديد من الدول الأفريقية، ما يهدّد بانهيار الدول، ويجعل دول القارّة ساحة للتجريب الدولي والتدخّلات من خارج القارّة ومن داخلها، ترهن آفاق السلم والتنمية لحسابات ضيقة. وما زالت القمم الأفريقية وأدوات اشتغال الاتحاد الأفريقية عاجزة عن إثبات جدارتها في تدبير كل هذه المواضيع الملتهبة في مناطق عديدة من القارّة. ولعل من المفيد أن نجد الجواب عن السؤال المؤرّق: هل تملك القارّة الأفريقية وسائل معالجة مواضيعها بنفسها؟ هذا الحلم الأفريقي العتيق الذي ظل يراود الآباء المؤسّسين كما يحفز النخب الجديدة، ما زال رهن الاحتمال فقط!
رابعا: على غرار المنظمّات الدولية، يعيش الاتحاد الأفريقي نوعا من الانكماش في الانخراط الجماعي والالتفاف حول وحدة الموقف. وهذا التراجع أو التقوقع يرافقه عادة نوع من “الانعزالية السيادية”، أمام التباس الوضع وتشابك المعضلات وتعدّد التدخلات.
خامسا: غياب القوة السياسية الضرورية لحل النزاعات، علاوة على أن أفريقيا ما زالت بدون أدوات ردع قوية، مثل قوات أفريقية لحفظ السلام، وإِنْ وجدت تجد صعوبة مالية وبشرية. ولعل جزءاً من الحل يكمن في قرار مجلس الأمن، الذي قرر منح القارة 75٪ من تمويل أي بعثة سلام تشكلها المنظمة القارّية، على أن يبقى للاتحاد الأفريقي ضمان الباقي، سيما من خلال الدعم الأوروبي، وهو أمر يطرح، من جهة أخرى، مدى استقلالية القرار الأفريقي إزاء المنظمات الدولية ثم إزاء التكتلات القارّية الأخرى مثل أوروبا.
سادسا: هناك الحيطة الملاحظة من “السوابق”، ونعني به ما صرحت به لوكالة فرانس برس مديرة برنامج أفريقيا في معهد إيغمونت للعلاقات الدولية في بروكسيل، نينا ويلين، “مقاومة الدول الأعضاء التي لا تريد أن ترى سوابق يمكن أن تضرّ بمصالحها الخاصة لا تزال تمنع الاتحاد الأفريقي من إسماع صوته”، وهي إشارة إلى غياب أي تأثير على الدول التي شهدت انقلابات.
وقد رسم رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي محمد، الذي ينتظر أن يغادر منصبه في السنة المقبلة صورة قاتمة للأوضاع في القارّة، وشدّد على وجوب أن يتصدّى القادة الأفارقة لصراعات وانقلابات وأزمات سياسية لا تعدّ ولا تُحصى تعصف بحياة 1,4 مليار نسمة، وقد آثر أن يشير إلى هذا الخطر أكثر من تركيزه على أجندة التنمية، الضرورية بل الإجبارية، لتجاوز وضع الانغلاق والانحسار السائد حاليا في القارّة، فالمشكلات التنموية، من قبيل التعليم (شعار القمّة) والتشغيل والتغذية والخدمات الاجتماعية ما زالت في طور النقاش الجنيني، بالرغم من انقضاء عقد على وضع أجندة 2063 القاريّة من أجل التنمية. وتملك القارة أوراقا عديدة من أجل الوصول إلى طموح مشترك قابل للتنفيذ، من خلال ما تراكم لديها من خبرات فردية، وبوجودها ضمن تقاطعات دولية مهمة تجعلها على بينة من النقاش الدولي بشأن قضاياها، ومن ذلك منحها العضوية الدائمة في مجموعة الدول العشرين الكبرى، وهو منصبٌ يعطيها الحقّ في الجلوس حول مائدة التفاوض الدولي بخصوص قضايا عديدة توجد القارّة في محورها. ولعل القارّة في حاجة إلى دروس ماضيها التحرّري، من أجل أن تشتغل بقرارها وتتملك مستقبلها وتتجاوز وضعيتها كحديقة حيوانات للعالم والسياح الدوليين، وهو الشرط الذي وضعه ذات يوم الكاتب رومان غاري، في روايته “جذور السماء”، بمعنى آخر إنها قارّة المستقبل وليست حديقة حيوانات جيوستراتيجية!