صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “أفريقيا في دور الحكم بين إيطاليا وفرنسا”. و نظرا لأهمية المقال في فهم مقاربة روما المغايرة للقارة السمراء، نعيد نشره بالكامل.
قد تجد القارّة الأفريقية نفسَها في وضعية الحَكَم بين إيطاليا وفرنسا، في ما يتعلق بالعلاقة مع الدول القوية في المجرّة الأوروبية. وبالرغم من أن قادةً أفارقةً اجتمعوا يومي 28و29 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) في روما في إطار قمّة إيطالية أفريقية، لا يحبذون القيام بدور التحكيم هذا، بَيْد أنّ الدوافع والحسابات الجيوستراتيجية تضع القارّة في موقع ميزان الجدوى، من حيث التعامل مع إيطاليا وخطتها الجديدة في التعاون مع القارّة أو مع فرنسا، والتي يبدو أن مستقبلها قد صار، ولو مرحليا، خلفها، وقد تلجأ إلى محاولة استعادة دورها قوة سابقة في القارّة.
لقد وضعت إيطاليا للقمّة الإيطالية الأفريقية عنواناً بِشقَّين، الأول يُفتي بقطع الطريق على الجيوسياسة الافتراسية، (لا للافتراس كما يقول الشعار) في إشارة، بالكاد، مبطّنة، إلى الشريك الفرنسي، للقارّة. ولعل هذا التأويل لا يبتعد عن المضمر الحقيقي الذي يحمله الشعار، إذا ما استحضرنا الهجوم العنيف الذي قادته رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني، لمّا كانت في المعارضة، ضد فرنسا، وصل إلى حد اتهام مباشر لباريس بالمستعمر الدائم!
أما الشق الثاني فيتحدّث عن “النِّدِّية” بين القارة السمراء وشريكها الإيطالي، ومن ورائه أوروبا، ثم مجموعة السبع الكبار (G7)، التي تترأسها إيطاليا حاليا، نِدية تختط لها طريقا بين النزعة الإحْسانية التي طبعت تعامل الأوروبيين والقوى الكبرى مع الأفارقة، وبين السيطرة على كل ثروات البلاد وسياساتها ومؤسساتها… إلخ.
وفي التوجّه الجديد، أنضجت روما، كما هو معلن، مقاربة مغايرة للتعامل مع القارة السمراء، التي كانت تتلخص إلى عهد قريب في تدفق المهاجرين، لا سيما القادمين من دول جنوب الصحراء والساحل. وارتباط جزيرتها لامبيدوزا بالمشاهد المرعبة للجثث الطافية فوق المتوسّط، مع تشدّد أمني إيطالي وأوروبي غير إنساني. وهو نضج نقلَ الحكومة الجديدة، التي بَنتْ فوزها السياسي على خطاب يميني متطرّف، من حكومة تدعو إلى بناء “أسوار في وجه الهجرة” أو “متاريس حصار بحري” لمواجهة الأفارقة الحالمين بالإلْدورادو الأوروبي، إلى حكومة طوَّرت خطابا تنمويا تشاركيا لمعالجة المشكلة من الأصل، مع استحضار حاجتها إلى لعب دور مركزي في قضية إدارة قضية الهجرة. ولعله نضج تكمن وراءه حقائقُ الفشل القاسية في هزم حشود المهاجرين، تتمثل أساساً في ارتفاع نسبة الهجرة بما يفوق خمسين في المائة في إحصائيات العام الماضي وحده!
في خانة الهجرة، تبدو قمة روما آكثر قربا من المقاربة الأفريقية نفسها، حيث تعتبر الأجندة الأفريقية للهجرة التي تولى أمر صياغتها المغرب، باعتبار عاهله “رائد الاتحاد الأفريقي حول الهجرة” منذ 2018 وهو البلد الذي يحتضن المرصد الأفريقي حول الهجرة، باتفاق قادة القارّة. وهذه الأجندة هي قاعدة المقترح الأفريقي إلى الأمم المتحدة، والتي تركز على اعتبار الهجرة حقل إمكانات أكثر منه ألغام مخاطر، وتعتبر القارة نفسها فضاءً للهجرة باعتبار أن ثمانين في المائة من الهجرات الأفريقية تحدث داخل القارة نفسها، فضلاً عن فشل كل المقاربات الأمنية المحضة، والتي تجمع في سلة واحدة الضحايا والمجرمين من المتاجرين في البشر وأرباب شبكات التهجير اللاشرعية.
وإذا كان بعض المنتقدين يرون في خطة روما سعياً نحو تقديم نموذج للكيفية التي يدير بها اليمين المتطرّف قضية الهجرة، فإن رهان إيطاليا يذهب كذلك إلى أبعد من ذلك، ولا يمكن فهمه إلا من خلال تقلبات جيوستراتيجيا الطاقة. ومعناه أن تكون المركز الدوار للطاقة التي تُؤَرِّق أوروبا وتضعها دوما تحت الوصاية الروسية. بسبب الهشاشة الأوروبية أمام معضلة الطاقة القادمة من بلاد الدب الروسي.
ولعل في اختيار اسم خطة “ماتي” ما يدلّ على هذا الرهان، ودوره المركزي في استراتيجية روما الأفريقية. ومعروف أن إنريكو ماتيي، الذي اختارت رئيسة الحكومة التيمُّن به في تسمية خطتها، هو المؤسّس الحقيقي والفعلي للشركة الوطنية للمحروقات الإيطالية “إيني”، وعليه، يجمع اختيار اسمه بين مجال تخصصه، وهو المحروقات، ورمزية مسعاه باعتباره كان رفيقا لكثير من الدول حديثة العهد بالاستقلال، وقد ساعدها في بناء هياكلها ومخزونها وسياستها الطاقية. وهو قبل ذلك وبعده، يمثل القوة التحريرية في بلاده باعتباره قاد سياسة تطهير الآثار الفاشية في مجال الطاقة، كما أثبتتْ ذلك تصفيتُه شركة جيب المتهمة بموالاة بينيتو موسيليني.
وبالسنة للقارّة، فقد نجح وقتها، في خمسينيات القرن الماضي، في بناء شبكة من شركات التنقيب وتكرير البترول في مصر وتونس والمغرب، وشجع على فتح أسواق جديدة في القارة لمواجهة المنافسة الكبرى لشركات الدول المستعمِرة، والتي كان يسمّيها “الأخوات السبع”! المسيطرة وقتها على ثمانين في المائة من الأعمال البترولية عالمياً! ولعل من مكر التاريخ أن بلاده تترأس اليوم تحالف الدول الصناعية السبع، التي كان قيامها في الواقع ردا على نشاط إنريكو ماتيي في تكسير تحالفها في مجال السيطرة على النفط.
على كلٍّ، لا يغفل المحللون عم أن طموح إيطاليا في لعب الورقة الأفريقية معلن، وهو يحرّكها بالقدر نفسه الذي تعمل به قضية الهجرة الأفريقية. وتتطلع إلى أن تستدرج حاجة أوروبا من الطاقة الأفريقية، بسياسة مغايرة، على الأقل ظاهريا، عن المقاربة الفرنسية، التي جعلت فرنسا دولة نفطية من.. باطن التراب الأفريقي. ولعل الهدف المعلن أيضا هو تأمين التموين من الطاقة لكامل الاتحاد الأوروبي، بوضع إيطاليا جسرا جغرافيا وسياسيا مع القارّة مبنيّا على قاعدة شراكة قائمة على الندّية، وهي بالمناسبة ليست الندّية الأولى التي تعلنها دول الشمال مع قارات الجنوب. ومع ذلك، سيكون أمام الأفارقة أن يحكموا على جدية المقترح الإيطالي وفعاليته على ضوء التجربة الفرنسية. وفي السياق ذاته، ولم يخْف سفير الكونغو برازافيل في روما هنري أوكيمبا هذه المقارنة، عندما صرّح (كما نشرت الباريسية لوموند واسعة التأثير) “إن الإيطاليين فهموا أن المرحلة تغيرت، لهذا لا يعطون الدروس، وهذا إيجابي”. كما لا يخفي الجميع التقاطه الرسالة الإيطالية بأنها “رسالة تستهدف المستعمر الفرنسي السابق”، ومع ذلك، لا أحد يعلن انخراطه اللامشروط في النوايا الإيطالية قبل أن يحكم على ما يتحقق في الميدان.
ويبقى أن إيطاليا، التي تعمل لفائدتها كما لفائده أوروبا، قد عبَّأت ما يقارب 5,5 مليارات يورو للمشروع الذي تدافع عنه، على قاعدة أن الاستثمارات المشتركة بين القارّتين يمكن أن تساهم في إدارة تدفقات الهجرة، إذا ما جرى إطلاقها بمنطق الشراكة والتنمية المشتركة! بما يعني ذلك التربية والانتقال الطاقي والتكوين والتشغيل والصحة والماء الشروب والتقلبات المناخية. وهوما يعتبره الأفارقة، ومنظمات دولية عديدة مهتمة بالتنمية، المرتكزات المفتاح لكل انتقال طاقي أو غذائي ناجع.. ولعل في العرض الإيطالي تكاملا مع ما سبق أن وضعته أفريقيا لنفسها، سواء في أفق 2030 من خلال خطة الاتحاد الأفريقي أو من خلال أجندة التنمية.
في التنفيذ، ينتظر الأفارقة جورجيا ميلوني وفريقها الحكومي لإثبات أن التحكيم سيكون لفائدتها بعد أن جعلت من أفريقيا “ما يفوق الأولوية”، على حد الصحافة الغربية، ومنها الفرنسية ذاتها، ذلك أن القَدرَ الاستراتيجي الأفريقي الذي تريد إيطاليا بناءه لنفسها يخدمها على المدى البعيد، هي التي لا تعاني من التراجع الذي تعيشه فرنسا، ولعل في إرادتها بناء نجاحها على فشل فرنسا، ما قد يكون في خدمة القارة ككل… ويحسم التحكيم لصالحها!