أول مرة، أجريت مكالمة هاتفية، كان ذلك في منتصف السبعينيات، بطلب من أمي. قصدت وكالة بورنازيل للبريد (بالبيضاء)، وأنا ذو العشر تقريبا، من أجل مهاتفة والدي، الذي كان مرابطا بالأقاليم الجنوبية.
حين أمرني موظف البريد بالتوجه إلى المقصورة رقم 3، ارتبكت، في البداية، من مجرد لمس الهاتف. ولأن سعر المكالمة كان باهظا، يومئذ، سمعت صوت الموظف يأتيني عاليا، مطالبا إياي بسحب السماعة للشروع في المحادثة، قبل ضياع حصة المكالمة (هكذا) مجانا. لقد كانت تجربة غير مريحة بالنسبة إلي، أنا الفتى عقدئذ. لم أكن أتصور أن أحادث والدي هناك، وهو يبعد عني بمئات الكيلومترات، بعد غيبة من عدة أشهر. ومع ذلك، كنت قادرا على تبين نفس صوته، حشرجة صدره من كثرة التدخين. بتأثير قوة اللحظة، كان عدم استيعابي للحدث مترافقا مع طرح أكثر من سؤال. كيف يأتي إلي أبي بالصوت دون الصورة؟ كيف له أن يقطع كل هذه المسافة الطويلة من الجنوب، عبر تلك الأسلاك الدقيقة، إلى أن يتدفق عبر السماعة؟
لقد ظللت في خوفي من الهاتف ردحا من الزمن، كلما هممت بتناول السماعة. أعترف أنني كنت محافظا وماأزال، لا أقبل على المغامرة إلا في ما ندر، ومكرها في أغلب الأحوال. ويوم تمكنت من إجراء مكالمة أخرى، في زمن متأخر نسبيا، بالصوت والصورة، كانت دهشتي عظيمة أيضا. كيف لهذا “المخلوق” العجيب، بحجم الكف، أن يربطني بمن أحب صوتا وصورة، وعلى مدى أبعد بقدر مسافات ضوئية، ومن الجنوب حيث -أنا- كنت هذه المرة؟
لقد اعتاد الناس أن يخصصوا، اليوم، جلسات للحديث مع الأهل والأصدقاء. لم يعد السؤال عن الحال والصحة هو المطلوب وحده. يكفي أن يكون لنا رصيد من التعبئة، أو اشتراك في خدمة الويفي، لنقضي ساعات من السمر، رفقة الأباعد والأقارب من معارفنا، على حد سواء.
ومع الواتساب، وبعجلة تكنولوجية سريعة ومتلاحقة، ظهرت تطبيقات أخرى. غير أن ما سيكدر أريحية الهاتف، التي أنعمت علينا بها ثورة المعلوميات، هو تطبيق تسجيل المكالمات. بعد أن كنا أصدقاء وأقرباء، صرنا في موقف الجواسيس على بعضنا البعض. العفوية في المحادثة الهاتفية، التي تأخذ صورا من العتاب، اوالنميمة المقبولة بحق بعضنا البعض، باتت أسلحة ضدنا خلال ساعة “تصفية الحساب”، بمجرد حصول سوء فهم عابر. الورقة المشهرة في وجهك لحظة الحسم: تسجيل صوتي أو مشاهد فيديو.
وعلى الرغم من عدم قانونية التسجيل، في غياب من مواقفة الطرف الآخر، إلا أن حفظ المكالمات وتصويرها، عبر تطبيقات التخزين، مازالا مستمرين إلى الآن: في الإدارات، في الأحزاب، في الجمعيات، في البيوت. القاعدة باتت تقول: أنا أسجلك، كرها منك، إذا أنا موجود. التسجيلات، صارت معروضة في الطريق مثل معاني الجاحظ، وأكثر من ذلك صارت شواهد اثباث في المحاكم. أنا أسجلك، وأنت تسجلني، و”الأجهزة” تسجل علينا جميعا (إصابات بالطبع.. ههه).
من شأن الهاتف الحالي، بتطبيقاته الذكية والمتنوعة، أن يربينا على حسن الحديث، والاقتصاد فيه من الغلو والشطط، وأن يعودنا على دمقرطة الحوار وشفافيته، سواء في فضاءاتنا الخاصة أم في فضاءاتنا العامة. غير أنه، وعلى العكس من كل ذلك، من شأنه أن يسلبنا عفويتنا في الملاحظة والتعليق والحكم، وحتى الخطإ. فعلا، أضحينا نخاف من الحديث بالهاتف. نعمته غدت نقمة علينا أحيانا.
كن شجاعا مقداماً في تحمل مسؤولية المحادثة، وإلا أغلق فمك إلى الأبد، أو على الأقل لا تجب إلا بقدر ما تسأل، أو اجنح إلى محادثة هي أقرب إلى لغة الخشب، أو همم بملفوظات هي أقرب إلى لغة البكم، أو فلتكن لك لغة مثل هاته منذ الآن: اييه، واخا، نعام، كيفاش، دابا نشوف، ايييه، حتى نتلاقاو، بصاح، مافراسيش..
ألم تقل العرب جبنا: مقتل الفتى بين فكيه؟؟!!!