صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “هل تنقذ الواجهة الأطلسية دول الساحل؟”. و نظرا لأهمية المقال في فهم أبعاد هذا الرهان الرهان الجيوإستراتجي الواعد ، نعيد نشره بالكامل.
هو درس في الجيوستراتيجية التأسيسية، إذا ما أقررْنا بأن موضوعه إيجاد الدول المعنية الحل لمشكلات (تملكها) من خلال.. ما لا تملكه (البحر)؟ وصياغته: هل تنقذ الواجهة الأطلسية دول الساحل جنوب الصحراء، مرتع الإرهاب واللاستقرار والانقلابات، بالرغم من أنها لا تملك ممرّا إليها؟
يكاد السؤال أن يكون إشكاليا، أو لنقل فلسفيا، من فرط ما يفقد من عناصر إجابة آنية، والمعنى هنا قائم على أن هذه الدول لا تملك معبرا إلى المحيط، وبالتالي، نحن نريد من الدول المعنية أن تجد الحل لمعضلاتها المتشابكة في… ما لا تملكه! مع ذلك، تنامت دلالة هذا السؤال واتخذت ما يشبه الطابع الملموس لشرعية طرحه من خلال الأحداث التي تعيشها المنطقة، وهي ثلاثة أحداث، غيرت من جغرافيتها السياسية ومن تكتلها، وفتحت الباب لاسْتشرافاتٍ غير مسبوقة وغير مألوفة أيضا، للحل.
ولعل أول التحوّلات المركزية في الحاضر السياسي لدول الساحل (أساسا تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي) خروجها عن منطقة نفوذ الدولة الفرنسية، التي ظلت تتحكّم في خيوط اللعبة منذ نهاية القرن التاسع عشر، وفي سياق امتدادات سياستها الأفريقية في ما بعد نهاية الاستعمار. وهي المرّة الأولى منذ عدة عقود التي تجد فرنسا نفسها في مواجهة مراجعة وجودها في القارة السمراء، إن لم نقل التشكيك فيه ورفضه. ولعل إعلان وزارة الخارجية الفرنسية، في الأسبوع الماضي، عن إغلاق السفارة الفرنسية في النيجر “حتى إشعار آخر” هو التكريس الرسمي لهذا الخروج الذي رافقته التظاهرات الرافضة للوجود الفرنسي في مجموع خريطة الساحل، لا سيما أنه تزامن إغلاق السفارة مع سحب آخر الجنود الفرنسيين المنتشرين في النيجر الذين غادروا البلاد في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2023، ضمن ما مجموعه 5500 جندي في منطقة الساحل، كانوا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر قبل طردهم إثر الانقلابات التي غيّرت أنظمة الحكم.
أما المعطى الثاني، الذي غيَّر من “فيزيونوميا” المنطقة السياسية فهو قرار مالي وبوركينا فاسو والنيجر “نيتها تعزيز تعاونها”، خلال اجتماع لرؤساء حكوماتها في نيامي. ولعل الجديد في دلالة هذا الفعل الديبلوماسي ما وضحه رئيس الوزراء النيجري علي ماهامان الأمين زين بقوله إن “تشكيل لجان تعاون موحّدة للدول الثلاث” يأتي بدلا من اللجان الثنائية.
ولعل أهم ما يسترعي الانتباه في هذا السياق الاتفاق على طرح “كل المشاريع والبرامج الهيكلية (المشتركة) على الطاولة في سرعة كبيرة”، مع إفراد إنشاء “طريق سريع وخط سكّة حديد بين هذه البلدان الثلاثة المجاورة القاحلة وغير الساحلية”، بتنبيه خاص.
أما المعطى الثالث، وهو ما يسلط الضوء أكثر على مشروع العمل الثلاثي، الاجتماع الذي سبق هذه الخطوة، في مراكش في 22 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، ضمّ الدول الثلاث، إضافة إلى تشاد، بعد الدعوة التي وجهها العاهل المغربي محمد السادس من أجل فتح الطريق لدول الساحل نحو المحيط الأطلسي، وتمكينها من ممارسة تفكّ عزلتها البحرية من أجل الانضمام إلى التكتل الأفرو ـ أطلسي الذي يهم كل الدول المتشاطئة والمطلّة على المحيط.
وقد سبق لكاتب هذه السطور أن عبّر عن التوجه الذي تسعى إليه هذه الدعوة بـ”الاقتصاد السياسي للسلام”، ومعناه الخروج من الحلقة المفرغة التي تدور فيها هذه الدول، ما بين الحلول اللادستورية للمشكلات السياسية بواسطة الانقلابات، والإرهاب، وطبقة سياسية ضعيفة ومتناحرة، وبين الجيوش التي شعرت بأنها تركت لحالها في مواجهة المليشيات المسلحة.
وجدير بالإشارة أن الخطوات المتسارعة توالت بميزان الاستعجال حسب الأجندة التالية: خطاب العاهل الملكي نحو بناء الهوية الأطلسية للدول المطلّة على المحيط، وهي حوالي 23 دولة حضرت مؤتمرا خاصّا في المغرب، تلاه خطاب المسيرة الذي ركز فيه على المنطلقات التي تحكم نجاح هذه الخطوة، ومعناها: المشكلات والصعوبات التي تواجه دول منطقة الساحل لن يتم حلّها بالأبعاد الأمنية والعسكرية فقط؛ بل باعتماد مقاربة تقوم على التعاون والتنمية المشتركة. إطلاق مبادرة على المستوى الدولي، تهدف إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي. تأهيل البنيات التحتية لدول الساحل، والعمل على ربطها بشبكات النقل والتواصل بمحيطها الإقليمي. وضع البنيات التحتية، الطرقية والمينائية والسكك الحديدية للمغرب رهن إشارة هذه الدول الشقيقة.
ونحن حاليا نتابع كيف أن إحدى الدعائم الجيوسياسية، المتعلقة بدول الساحل، لهذا التوجه الأطلسي قد بدأت عمليا من أجل تحويل الفكرة إلى واقع، من خلال أعمال الاجتماع الوزاري التنسيقي بشأن هذه المبادرة الدولية. والتقدير الاستراتيجي لجدوى هذه الخطوة لا ينحصر في المعالجة الأمنية والعسكرية فقط للمشكلات التي يتخبّط فيها الشريط الممتد من موريتانيا إلى تشاد مرورا بمالي وبوركينا فاسو والنيجر، بل يسعى إلى إخراج المنطقة، بفعل مبادرة دولية قطباها المغرب والساحل. وبما تراكم من حضور ديبلوماسي، للمغرب استقلالية إزاء الفاعلين المركزيين، أو العاملين من أجل الوجود في القارّة السمراء عموما، وفي الساحل والصحراء على وجه الخصوص، وهم الصين وروسيا والولايات المتحدة، بفعل شراكات استراتيجية متنوّعة، يريد من خلالها الموقع كدولة صاحبة قرار “وليست محمية لأي كان”، كما قال العاهل المغربي في قمّة دول الخليج في إبريل/ نيسان 2016.
ولعل من صدف الأجندة المشجّعة أن اجتماع مراكش مع دول الساحل تزامن مع القمّة العربية الروسية، وما تفرّعت عنه من اتفاقيات، وأيضا من آفاق لروسيا وللدول العربية المعنيّة بالنشاط الأفريقي، والأفريقي الأطلسي تحديدا. ومن خلال المبادرة والمسارعة إلى تنفيذها، تتبين رغبة المغرب في أن يكون مُخاطبا دوليا في ما يخصّ المنطقة الأكثر التهابا في أفريقيا، باعتبارها تنبني على مقاربةٍ تقطع مع منطلقات دول مثل فرنسا، كانت تعتبر أنها وصية على التطوّر الديمقراطي في هذه البلدان، كما تقطع مع المجموعات، مثل “السيداو” التي قرّرت فرض العقوبات على الدول التي تغيّرت فيها الأنظمة عن طريق الانقلابات، أو بطرقٍ غير دستورية، كما تقول بلاغات “السيداو”.
ولعل من اللافت، من خلال مخرجات الاجتماع الثلاثي في عاصمة النيجر المشار إليه أعلاه، أن قراراها الاستعجالي (طريق سريع وخط سكة حديد) يلتقي مع الأولوية التي وردت في الأجندة المغربية، من خلال خطاب العاهل المغربي، أي “وضع بنياته التحتية والطرقية والمينائية والسكك الحديدية رهن إشارة تلك الدول دعماً لهذه المبادرة”.
نحن أمام تكتل إقليمي يعيش أزمة متراكبة، يتضمّن وجودُها عديدا من نقاط الهشاشة وعدم الاستقرار من ضمور الدولة والإرهاب والحركات المسلحة والهجرة المكثفة والفقر المدقع للساكنة، حسب كل مراكز الدراسات، التي تضيف الإرهاب أيضا الذي يهدّد الوحدة الترابية، علاوة على أن الحدود بين هذه الدول تكاد تنعدم، ما يزيد من صعوبة بسط نفوذ الدول.
الفرصة التي تحفز الدول المعنية مناسبة للانضمام إلى فضاء تدلّ أرقامه، اقتصاديا وجيوسياسيا، على قوة هيكلة للعالم اليوم، من حيث أنه مجال يضمّ الساحل الأفريقي، ثم الساحل الأميركوـ اللاتيني، وغرب أوروبا والساحل الأميركي الشمالي (الولايات المتحدة وكندا)، ويمثل عمليّا 60% من الناتج الداخلي الخام العالمي. على المستوى القاري، ستدخل دول الساحل ناديا أفريقيا تمثل الواجهة الأطلسية فيه 46% من ساكنة القارّة 55% من الناتج الداخلي الخام و57% من التبادل التجاري. إضافة إلى الآلية السياسية التي تم إنشاؤها بين دول هذه الواجهة، على أساس هيكلة البعد الأطلسي لهذه الدول، من خلال حوار سياسي أمني، وتدعيم الاقتصاد الأزرق وتقوية الطاقات البديلة.
بطبيعة الحال، لا بد من أن تستحضر هذه الدول نسبية الأشياء، أولا باعتبار أن هذا الفضاء الجيوسياسي في طوْر البناء، ويستلزم عملا متواصلا وذكيا من أجل تمكين هذه الدول من تحقيق هوية استراتيجية أفروأطلسية، وتجاوز التقاطعات التي ستزداد بفعل تعقد الأوضاع في القارّة وفي العالم.