صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “المسيح لم يَعُدْ هذا العام إلى مسقط مُعجزتِه”. و نظرا لأهمية المقال في التحسيس باستمرار العدوان الإسرائيلي الغاشم و الجبان على غزة ، نعيد نشره بالكامل.
لن يعود المسيح إلى بيتِ لحم هذه السنة، كما اعتاد كل عام. الطفل المعجزة، ابن مريم العذراء، مَنَعَتُه أسراب الطائرات من زيارته المقدّسة. بيتُه تطارده المجنزرات. أبناؤه وضعوا له بيتًا رمزيًا، عندما وضعوا له مهدا وسط الأنقاض، هيأوا له “غَرْنيكا” القرن الواحد والعشرين.
ليس في “غرنيكا = غزنيكا ” شجرة لأضواء الميلاد، ليس فيها تلاوين الراهبات. هناك فقط بيت رمزي أرادت الكنائس الفلسطينية أن تبنيه من الأنقاض والدمار والرماد… والحجارة المنصهرة في الرصاص للابن المعجزة. ولا معنى لهذه اللوحة الفجائعية “المسيح وسط الدمار” عنوان غرنيكا الجديدة، بعد أن سقط آلاف الأطفال، سوى أن إسرائيل تُرسل إلى الطفل يسوع أقرانه من الفلسطينيين، بأرواح بيضاء طهّرتْها غُرفُ الجحيم.. بكنائس تسقُط على المصلين، وأسْقُفُ أورشليم بدورها تنهار، وقنّاصة يتربّصون بالخارجين من أماكن العبادة في غزّة، ولكل أهل غزة تحت النيران.
ليس للمسيح شهيةُ الصليبِ مجدّدا، لآلاف الأطفال، في طريق المحرقة، وهو يرعى بعين السماء الهاربين إلى كنيسة “الزيتون” في غزّة، أو يراقب من عواصم أخرى طريق الجلجلة، حتى وإن لم يكن المسيح فلسطينيا كما هو اليوم: وحيدا على صليبه تحت وابلٍ من المجازر.
وبعيدا عن هذه الترنيمة القيامية، هناك سؤالٌ جارحٌ في العالم: كيف يتم الاحتفال بميلاد سيد السلام، في وقتٍ يلتقي فيه كل المحتفلين في التعوّد على المجازر والإبادات وجرائم الحرب، من دون أن يشعر هذا الضمير الغربي بِيُتْمٍ متعدّد، بعجز المسيح عن عودته إلى رمزينه المُقدِّسة للطفولة والسلام؟ سؤالٌ قد نغامر بالجواب عنه بطريقتين:
الأولى، أن نضع العنوان “مسلم اسمُه المسيح” عنوانا صوفيا مستوحى من تجربة لكاتب مغربي يكتب بالفرنسية، لكن في سياق حربي فلسطيني، يجعل من حقّ كل دِيانتَيْ غزّة التي تُقَتَّل، أن يكون منها المسيح، في سمو تضحيته وصبره وقدرته على العود الأبدي، يكون بهذا التبجيل الرسولي “الفلسطيني الغزيّ المسلم، اسمُه المسيح“.
الثانية: الحرب تقوم بتأويل الحضارة اليهودية المسيحية Judeo- chretienne على أساس أنها نسيان الإنساني في تجربة الغرب، عندما يكون أمام الآخر المختلف. تأويل يسمح بالطوفان وبالجلجلة وبجحيم حي، في تكثيفٍ رهيبٍ، بدون الحاجة إلى عقدة ضمير لتوجيه البوصلة. وهو مضمر عنوان ثان، “انحطاط: حياة أو موت اليهودية – المسيحية“، لصاحبه ميشيل أونفراي، وفي قلبه مفارقة أثبتتها حضارات سابقة، ومفادُها بأن الحضارات تموت، والحضارة اليهودية المسيحية، التي عمّرت ألفي سنة، لا تشذّ عن هذا القانون، كما كتب صاحب الكتاب. كما لو أن لحظة إحياء الإرث المسيحي – اليهودي، تتم من زاوية صراع الحضارات الذي يجب أن يُفضي إلى رماد الحضارة التي تقيم في الجوار الجغرافي نفسه، وبالنسق الروحاني نفسه القادر على الفرادة… مع فارق جوهري: النسق هنا هو الإنسان الفلسطيني الضحية. ولعل الأساس الرئيسي الذي يوجد في المحكّ بسبب الإبادة الجماعية، بموافقة رهيبة من أصحاب القرار الدولي، المنتسبين إلى هذا الجذع الحضاري، هو بالذات الأساس المعنون “الأخلاق اليهودية المسيحية” في وهنها الذي نتابعه اليوم، من خلال التعايش مع صورة “الطفل المسيح وسط الدمار“!
المساءلة، ومنها مساءلة الفيلسوف هابرماس، مثلا، تتخذ شكل محاكمة، يترافع فيها هنري بيرغسون، الذي حمل لواء هذه الأخلاق “يهوديومسيحية” القائمة على شرط العدل، وسعى إلى إقناع مثقفين عديدين، ومنهم عرب مسلمون، بها وبقيمتها الإنسانية المتسامية، وهو ما يجرّنا إلى معاينة هذا السعي المحموم إلى الخلط بين محاسبة الصهيونية والموقف من بنيتها المادية (الاحتلال) ومعاداة السامية! وكان أفضل تعبير لها تجريم انتقاد إسرائيل، ثم التظاهر الجماعي لأجل ذلك، كما حدث في فرنسا.
في الموقف الذي نختاره الآن، وحجر الزاوية فيه مقاومة الاحتلال ومحاربة التضليل، باعتباره أبشع أنواع القتل الرمزي بأدوات الأيديولوجيا، ليس الهدف اتخاذ موقف من منظومة حضارية بعينها، بل هو التأسيس على أن الأصل في الأشياء هو محاربة الاحتلال، وعلى هذه القاعدة، يتم تسييد صورة المسيح الفلسطيني الذي يُحرم من العودة إلى مسقط معجزته، كما يُراد أن يكون أي ساكن من سكّان غزّة، يحمل صُرَّةَ متاعه في صحراء من خرابٍ لا نهاية لها.
لا نطرح سؤالا نظريا ولا قضية فلسفية بلا جذور، بل بموضوع من صلب القرار السياسي العالمي (يكفي أن نقرأ الصحف السويسرية: نموذج لوتون– والفرنسية: لوفيغارو) الصادرتين في نهاية الأسبوع المنصرم، لكي نقف على حضور هذا البناء الأخلاقي في صناعة الرأي الغربي، ويكفي أن نتابع قدرة اللوبي المسمّى “الصهيونية المسيحية” وحضوره في قلب الترسانة التنفيذية الأميركية، لكي نفهم إلى أي حد وصل توظيف المسيح، الناصري الذي لا يموت بلغة محمود درويش، لخدمة … نتنياهو.
المسيح، من مقاطعته العليا، لا يريد من أبنائه أن يجعلوه جنديا في “تساحال” في الآية (لوقا 18:8) ما يلي: “لكن متى جاء ابن الإنسان، ألعلّه يجد الإيمان على الأرض؟“.