صدر للكاتب و الصحافي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “المغرب قضيةً إسبانية”. ونظرا لأهمية المقال و رغبة منا في تنوير الرأي العام الوطني حول العلاقة التي تربط المملكة مع الجار الشمالي الذي يستعد لخوض الإنتخابات التشريعية يوم ٢٣ يوليوز الجاري، نعيد نشره بالكامل.
يسكن المغرب في تفاصيل الحياة السياسية الإسبانية الداخلية رقما في كل معادلة انتخابية، وتزداد حدّة المعادلة كلما اقترب السجال من قضية الصحراء المغربية، فما زال للدولة المستعمِرة سابقا للمغرب في شماله وجنوبه جدول أعمالٍ تاريخيٍّ مفتوح مع المغرب بسبب استمرار استعمارها العديد من ثغوره، لعلّ أهمها سبتة ومليلة السليبتان، ثم بسبب الجوار الحذر أحيانا والصعب أحيانا كثيرة، حسب مستجدّات السياسة في غرب المتوسط وما بين القارّتين الأفريقية والأوروبية.
في اللحظة الانتخابية الحالية، على بعد أسبوع أو يزيد قليلا من الانتخابات التشريعية، يحضر المغرب بقوة السجال والاحتراب الحادّ، من خلال الموقف الجديد لمدريد من الصحراء المغربية، ورسالة رئيس الوزراء الحالي بيدرو سانشيز التي أرسلها إلى العاهل المغربي في مارس/ آذار 2022، وأعلن فيها موقفا إيجابيا من المسألة جعلته يعتبر أن الحكم الذاتي كمقترح تقدم به المغرب منذ 2007 إلى الأمم المتحدة، ويحظى بدعم حوالي مائة دولة، هو “الأكثر مصداقية وجدّية“، وليس فقط قاعدة للتفاوض، كما تذهب إلى ذلك دول أخرى تساند المغرب، مثل فرنسا. وقد قلب هذا الموقف معادلات غرب المتوسط وشمال أفريقيا رأسا على عقب، ولا سيما أنه جاء بعد تردّد إزاء موقف واشنطن من القضية ومحاولة مدريد تقويض الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على صحرائه. ومعلوم أن إسبانيا رأت في التحول الأميركي ورقة قوية في يد الرباط، قوَّت موقعها في الضفتين المتوسطية والأطلسية، وفي القارّتين الأوروبية والأفريقية.
في الوقت الراهن، يحدث ما لا يحدًث عادة، وهو التقاء اليسار الراديكالي، ممثلا في حزب “بوديموس” والخط المتشدّد الجديد “سومار“، مع اليمين التقليدي ممثلا في الحزب الشعبي، ثم اليمين المتطرّف ممثلا في “بوكس“، الصوت الجذري مع اليمين، من حيث الموقف من بيدرو سانشيز وطريقته في تسيير الموقف الإسباني الجديد من الصحراء. ويتميز الموقف عند كل تيار حسب موقعه في قلب الدولة أو في هامشها، فاليمينيون التقليديون يسعون للعودة إلى موقف مدريد التقليدي و“المحايد” ظاهريا، والذي لا يرضي المغرب، في حين يدفع الراديكاليون بتبنّي موقف أكثر قربا من الانفصاليين باسم تقرير المصير.
وكانت لافتة العودة القوية لرئيس الوزراء السابق خوسيه ماريا أزنار إلى ساحة السجال بمرافعاتٍ عدوانية ضد المغرب، أعادت إلى الذاكرة الجماعية للمغاربة عداوته المعلنة لبلادهم، سواء في فصل جزيرة ليلى، حيث كاد التوتر أن يصل إلى نشوب حرب، بعدما حرّكت مدريد قرابة 30 من عناصر الكوماندوس العسكري والسفن الحربية والطيران الهجومي، كما أعاد إلى الأذهان الحرب التي بدأت وسط البرلمان الأوروبي، بريادة الحزب الشعبي، عندما كان يتزّعمه ماريا أزنار، ثم التظاهرة الشعبية الكبيرة التي نظمتها الأحزاب المغربية ضد الحزب وزعيمه وحكومته.
ولا يخفى على الرأيين العامين في إسبانيا والمغرب أن أزنار اليميني يسعى إلى فرض علاقة متعالية مع الجيران، بما في ذلك في أوروبا، بسبب نزوعه الأطلسي الذي يتقرّب من الولايات المتحدة. لهذا يستغرب عديدون أنه يسير عكس السياسة في واشنطن، لكن المحللين في الضفتين يعتبرون أن موقفه، علاوة على طابعه الشخصي، يسعى إلى إضعاف موقع المغرب إزاء واشنطن نفسها بإبقاء الورقة الصحراوية بيد إسبانيا، باعتبارها القوة الاستعمارية السابقة والمالكة كثيرا من الأرشيف السياسي عن التراب المغربي المسترجع، وهو مسعى لدى جزء من ورثة فرانكو واليمين الجمهوري المتعصّب في أوساط المخابرات وفيالق من الجيش والمؤسسة الحزبية اليمينية. وفي الوقت الذي يدعو فيه أزنار وبعض من اليسار الجذري إلى التراجع عن الموقف الإيجابي لمدريد، لم تخرج المؤسسة اليمينية المتوقع حصولها على الأغلبية في انتخابات 23 يوليو/ تموز الجاري، عن صمتها، واكتفت بانتقاد الطريقة التي أدار بها بيدرو سانشيز الملف، بحيث تعيب عليه عدم عرض الاعتراف على البرلمان، وهو طعنٌ في الشكل بدون الحديث عن المضمون.
وكلما اقترب موعد الاستحقاق التشريعي، كشفت القيادة الجديدة للحزب الشعبي، ممثّلة في زعيمها ألبيرتو نونييز فاييخو، عن سياستها المستقبلية إزاء المغرب، حيث صرح بأنه سيزور المغرب كأول قبلة له إذا جرى تعيينه رئيس الحكومة، واعتبر المغرب “حليفا وجارا وشريكا استراتيجيا“، وهو ما يتعارض مع الهجوم الذي يقوده القادة السابقون للحزب، ولكنه، في الوقت نفسه، يعيد تأطير الحرب الانتخابية، بحيث إن سلوك الزعيم الجديد لليمين الشعبي، والذي يعتبر المغرب أقرب بلدٍ إلى قلبه بعد بلاده إسبانيا، ويقضي فيه عطله منذ زمان بعيد، يسلط ضوءا جديدا على المعادلة الإسبانية بمتغيّرها (ثابتها المغرب): تريد رسائل زعيم اليمين الشعبي أن يطمئن ناخبيه بأن العلاقة مع المغرب ستظل قوية وعميقة، وهو ما يعني رفضه المسبق للعودة إلى منطق الصراع الذي طبع فترات معنية من علاقات البلدين، وهو يدرك أن جدول الأعمال راهنا، بنقطه المتعلقة بالهجرة، والاقتصاد والإرهاب والصيد البحري لفائدة إسبانيا أكثر من غيرها، ولا يمكن أن يتفاوض حوله من منطلق التوتر. وأن “جيوستراتيجية القنافذ” التي سادت سابقا قد تجاوزت مغريات الحرب الأوكرانية ورئاسة إسبانيا الاتحاد الأوروبي وتوليها قمة الناتو، وكلها التزامات تدفعها إلى تجويد علاقاتها مع واشنطن، الحليف الاستراتيجي للمغرب منذ الاتفاقية الموقعة مع إدارتي ترامب وبايدن. لقد انتظر كثيرون في إسبانيا وفي غيرها من الدول المعنية بقضايا المغرب تراجع الرئيس بايدن عن التزامات دونالد ترامب بخصوص سيادة المغرب، وكانت النتيجة أن واشنطن رفعت وتيرة التحالف إلى مرتبة أعلى مع وصول الديمقراطيين وجو بايدن إلى السلطة.
كما أن المغرب الذي يراقب الوضع في إسبانيا بدون أدنى تدخّل رسمي من لدنه، أدرك معنى تصريح فاييخو بأن اليمين الشعبي “حزب دولة موثوق“، وهو ما يعني في قاموس الدبلوماسية احترام التزامات الدولة الإسبانية مع المغرب، بغض النظر عن نتائج الانتخابات، وقد اغتنمت الديبلوماسية المغربية الفرصة لترسل رسائل إلى النخبة الإسبانية من روما وبرلين! والعاصمتان الأوروبيتان اللتان تُعدَّان من أقوى العواصم في صناعة القرار الأوروبي، عبَّرتا عن دعم الحكم الذاتي، وهي تزكية لتصريحات بيدرو سانشيز في عزّ الحملة بأن إسبانيا تدعم موقفا تسانده عواصم الاتحاد الأوروبي وغيرها من العواصم صاحبة القرار الدولي.
كما أن الرسالة من روما بذاتها كانت مزدوجة، وهي أولا تأكيد دعم الحكم الذاتي بعد وصول جورجينا ميلوني اليمينية المتطرّفة إلى الحكم، وهي التي سبق لها أن زارت تيندوف قبل توليها السلطة، وراهنت عليها الحركة الانفصالية (البوليساريو) ومحتضنوها الدوليون، وهي ثانيا التشديد على احترام الرئيسة الجديدة لالتزامات الدولة الإيطالية بالرغم من ميولها الشخصية. وهو أمر لن يغفله اليمينيون الإسبانيون في تقدير الموقف بعد ظهور النتائج التشريعية، علما أنها غير محسومة إلى حد الساعة، بالرغم من حصيلة الانتخابات المحلية السابقة، لصالح اليمين الشعبي.
ترفض إسبانيا أن تلعب دور “الدولة المديرة” للأقاليم المغربية الجنوبية، وتكرّر أنها قطعت علاقتها مع هذا الدور، وما يتفرّع عنه في رسالة لها إلى الأمم المتحدة في فبراير/ شباط 1976. كما أنها تعتبر أن العلاقة مع المغرب إذا شابتها شائبة ستفتح المنطقة على توتر هي في غنى عنه، كما أن التعاون المغربي في قضايا الهجرة والإرهاب سيتأثر بأي تغير في موقف مدريد، ناهيك عن الضرر الاقتصادي الذي قد يمسّ قرابة ثمانية آلاف مقاولة إسبانية توجد في المغرب، وما يناهز مائة ألف أخرى تستفيد بشكل غير مباشر من التبادل مع المغرب. ولهذا، فإن مسايرة خوسيه أزنار أو اليسار الراديكالي قرار غير منتج وغير استراتيجي بالمرّة، حسب محللين عديدين، كما أن نتائج استطلاعات الرأي (منها استطلاع أجراه في شهر إبريل/ نيسان الماضي المعهد الملكي إلكانو للدراسات الدولية والاستراتيجية الذي يرأسه الملك فيليبي السادس)، تفيد بأن قرابة 40% من الإسبان يعتبرون العلاقة من المغرب ذات طبيعة استراتيجية وذات أولوية بالنسبة لمستقبلهم.